كيف تسهم الاشتراكية في تعزيز استقلالية المرأة ؟

 كيف تسهم الاشتراكية في تعزيز استقلالية المرأة ؟


تخيّل أنك مواطن ألماني غربي تعيش في تسعينيات القرن الماضي، وقرّرت أن تفتح التلفاز لمتابعة الأخبار، فإذا بمذيعة تخبرك بأن انهيار الجدار كان انتصارًا للنساء، لأن المرأة أصبحت معنيّة بأنوثتها في ثقافة تمجّد الأنوثة، كما أن المواعدة باتت أسهل في ظل النظام الجديد. ولكن، بعد لحظة تأمّل، تدرك أن هذا الطرح، عزيزتي القارئة، ليس سوى دعاية زائفة.


ولماذا ذلك؟ ببساطة، لأن انهيار الجدار وسقوط النظام الاشتراكي، الذي كان يسعى إلى توفير قدر من الاستقلالية المادية للمرأة، جعلها رهينة لنظام رأسمالي متوحّش لا يقيّم الأفراد بناءً على احتياجاتهم، بل وفقًا لقدراتهم. ونتيجة لذلك، أصبح دور المرأة في المجتمع وخياراتها فيما يخص الاستقلال المادي أكثر صعوبة، مما جعلها أقل قدرة على التأثير في شؤون حياتها، إذ إن السلطة والتأثير في هذا النظام يعودان لمن يمتلك القدرة، أي للرجل فقط.


وهنا، قد نصل إلى الفكرة التي أرغب في طرحها اليوم، وهي: كيف تسهم الاشتراكية في تعزيز استقلالية المرأة؟


عند الحديث عن استقلالية النساء اقتصاديا فالكثير منا يضع علامات استفهم حول هذا الا عند الحديث عن استقلالية المرأة اقتصاديًا، يتبادر إلى أذهان الكثيرين تساؤلات حول مفهوم هذا المصطلح ومعناه الحقيقي. لذلك، عند تناول هذا الطرح، لا بد أولًا من توضيح المقصود بالاستقلالية الاقتصادية للمرأة.


بعد الثورة الصناعية، شهدت أنماط الإنتاج تحولًا جذريًا، حيث انهارت المنظومة الإقطاعية الزراعية التي كانت تعتمد على وجود ملك أو أمير يحيط به طبقة من النبلاء، الذين احتكروا الأراضي ووسائل إنتاج الغذاء. في ظل هذه البنية الاقتصادية، لم يكن للمرأة دور فعّال، إذ اقتصر وجودها على الإنجاب والرعاية المنزلية، ما أدى إلى تهميشها وإقصائها عن الحياة العامة. وقد ساهمت الطبقة الإقطاعية في تعزيز هذا التهميش باستخدام تأويلات دينية مختلفة لتبرير قمع المرأة وإخضاعها.


إلا أن الثورة الصناعية أحدثت تغييرًا جوهريًا؛ فمع دخول الرجال إلى سوق العمل الصناعي، انهارت البنية الاحتكارية الإقطاعية القديمة لتحلّ محلها بنية احتكارية جديدة، وهي الرأسمالية. ورغم أن هذه المنظومة الجديدة ساهمت في تحسين مستوى معيشة الناس مقارنة بالعهد الإقطاعي، إلا أن الاستغلال الاقتصادي بقي مستمرًا بأشكال مختلفة.


استمرت هذه الممارسات حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، حيث أدّى نقص الأيدي العاملة بسبب مشاركة الرجال في الحرب إلى إدخال النساء إلى سوق العمل لتعويض هذا النقص. وكان لهذا التحول أثر بالغ في تشكيل مفهوم جديد للمرأة المستقلة اقتصاديًا، إذ بات من الواضح أن مشاركتها في الإنتاج تمنحها قوة تأثير أكبر في المجتمع. ولهذا، ليس من المستغرب أن معظم الحركات النسوية الحقوقية نشأت في تلك الفترة، فمع اكتساب النساء مزيدًا من الاستقلالية، أصبحن أكثر قدرة على التأثير في شؤون حياتهن، مما مكنهن من انتزاع حقوقهن، مثل حق التصويت، والمساواة مع الرجل، بالإضافة إلى تحسين فرص التعليم والرعاية الصحية وغيرها من الحقوق الأساسية.


لكن، وبما أن الرأسمالية نظام متناقض في بنيته، فقد كان من الحتمي أن يتم الالتفاف على تلك المكاسب العظيمة التي حققتها النساء، وإن كان ذلك بأساليب ناعمة وغير مباشرة. إذ إن المنظومة الاقتصادية الحديثة، رغم اختلافها جذريًا عن الإقطاع في شكلها وآلياتها، إلا أنها حافظت على جوهر الاستغلال نفسه. ونتيجة لذلك، وجدت النساء أنفسهن داخل دورة اقتصادية تكرّس تركّز الثروة في أيدي الرجال، مما يعني أن التأثير في شؤون الحياة العامة بقي حكرًا عليهم.


ومن هنا، تم تقويض إنجازات المرأة تدريجيًا، ليس بإلغائها صراحة، بل عبر الالتفاف عليها بأساليب تُبقي السلطة الفعلية بيد أصحاب رأس المال، ومعظمهم من الرجال. فعلى سبيل المثال، في الغرب، تمتلك النساء رسميًا حقوقًا مثل التصويت والمساواة مع الرجل، لكن على أرض الواقع، نجد أن حق التصويت نفسه مقيّد، حيث تتحكم النخبوية السياسية، التي تهيمن عليها المصالح الرأسمالية، في تحديد السياسات والبرامج، والتي غالبًا ما تصبّ في مصلحة هذه النخب لا في مصلحة عامة الشعب، ومن ضمنهم النساء.


أما فيما يتعلق بالمساواة الاقتصادية، فرغم أن القوانين تنص على ذلك، إلا أن الفجوة الاقتصادية لا تزال قائمة. على سبيل المثال، في الولايات المتحدة، تتقاضى النساء في المتوسط 71 سنتًا مقابل كل دولار يتقاضاه الرجل، مما يعكس خللًا هيكليًا في توزيع الثروة، لا تعالجه التشريعات وحدها.


وهكذا، نجد أن معظم دول العالم تمتلك على الورق قوانين تساوي بين الرجل والمرأة، إلا أن الواقع الاقتصادي يخلق فجوة عميقة تنسف تلك التشريعات، مما يجعل تحقيق المساواة الحقيقية بعيد المنال في ظل منظومة تضع القوة في أيدي من يملك رأس المال، وليس من يملك الحقوق نظريًا.


قد يتساءل البعض: “لكن هذه هي قوانين الحياة وقوانين السوق، والنساء في مكانة اجتماعية واقتصادية أقل لأن مساهمتهن في المجتمع أقل، ولأن طبيعتهن النفسية والفسيولوجية تجعلهن في مرتبة أدنى من الرجل.” وعلى الرغم من ذكورية هذا الكلام، قد يبدو أنه يحتوي على نقطة قد تكون محقة لو لم تُخض تجارب ثورية أثبتت بطلان هذه المزاعم، وأكدت أن معاناة المرأة ليست نتيجة لكونها امرأة أو قدرًا مكتوبًا، بل لأن المنظومة الاقتصادية والاجتماعية تضعها دائمًا في قوالب تقليدية تقيد خياراتها وقدراتها.


عند العودة إلى التجارب الاشتراكية في القرن الماضي، نجد أن النساء في دول مثل الاتحاد السوفييتي وألمانيا الشرقية، على سبيل المثال، تمكنّ من تحقيق مكاسب عظيمة. فقد وصلن إلى مناصب هامة في مجالات مثل التعليم والصحة والعمل، وكنّ يحصلن على رعاية خاصة مثل فترة حضانة الطفل، التي منحتهن امتيازات لا تجعلهن حبيسات قرارات الرجل داخل الأسرة. هذا كله جعل حياة المرأة أكثر استقرارًا اجتماعيًا، بل وأكثر توازنًا في حياتها الزوجية، حيث أصبحت شريكة حقيقية لزوجها وليست مجرد طرف في عقد زواج يشبه عقود العمل، كما هو الحال في العديد من الأنظمة الاقتصادية الأخرى.


التاريخ ذاته يدعم هذه الفكرة، فعندما نعود إلى الماضي، نرى أن السوفييت كانوا يحتفلون دائمًا بدور المرأة ويؤكدون على أهميتها في المجتمع، إلى أن وصلت بعضهن إلى أعلى المناصب في الجيش وفي مجال البحث العلمي. فالانتينا تريشكوفا، على سبيل المثال، كانت أول امرأة تزور الفضاء، وهناك العديد من النماذج الأخرى التي يمكن أن نذكرها. وعلى الرغم من أن معظم الامتيازات الحالية التي تتمتع بها النساء في الغرب اليوم قد تبدو حديثة، إلا أن كثيرًا من هذه الحقوق والفرص لم تكن لتتحقق لولا انهيار الجدار واندماج النساء من الشرق مع باقي العالم، حيث كان لهن دور محوري في توعية الغرب بتلك الحقوق.


من خلال هذه التجارب، يتضح لنا أن تمكين المرأة لا يأتي من مجرد منحها حقوقًا نظرية، بل من توفير منظومة اقتصادية واجتماعية تدعم قدرتها على الوصول إلى مراكز القوة، كما أظهرت الأنظمة الاشتراكية في القرن الماضي، والتي شكلت نقطة تحوّل في وضع المرأة على الساحة العالمية.


لذا، فإن انهيار التجربة الاشتراكية في القرن الماضي، كما أثر على شعوب العالم، فقد كان له تأثير بالغ على وضع النساء أيضًا. فمع بروز الهيمنة الأمريكية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، أصبحت الولايات المتحدة المحتكر الأوحد للثقافة العالمية المتعلقة بحقوق الإنسان، بما في ذلك حقوق المرأة. وفي ظل هذا التفوق الأحادي، نجد أن النموذج الأمريكي لحقوق النساء قد تحول إلى ما نعرفه اليوم بالتسليع الجنسي، حيث أصبح تصور المرأة لا يعتمد على كونها إنسانًا ذا حقوق وكرامة، بل أصبح يرتبط بقيمتها كسلعة تُعرض وتُطلب في سوق الاستهلاك.


هذا الوضع فتح المجال للعديد من التكتلات الاقتصادية، مثل شركات مستحضرات التجميل وملابس الموضة، لتشييء المرأة، وتحويلها إلى مجرد أداة استهلاكية تُسوق ضمن معايير جمالية مصممة لتلائم أذواق معينة. وفي هذا الإطار، تبنى الإعلام والرأسمالية الغربية خطابًا قد يُظهر ظاهريًا تحرر المرأة وحقوقها، لكنه في جوهره خطاب ذكوري يسعى فقط لتحقيق الأرباح من خلال استغلال صورة المرأة. وهذا أثر بشكل مباشر على زيادة الضغوط الاجتماعية والنفسية على النساء، مما أدى إلى تزايد حالات القلق والاكتئاب، وفي بعض الأحيان، إلى الانتحار.


هذا كله يحدث في عالم يُسمى زُورًا “متحضرًا”، بينما في العالم الثالث تجد النساء أنفسهن محاصرات في قوالب اجتماعية أكثر تطرفًا وعنفًا. وعلى الرغم من ذلك، تُقدم بعض القوى الغربية يد العون للأنظمة القمعية التي تشارك في قمع المرأة، وذلك مقابل دعم هذه الأنظمة للمصالح الغربية أو تقديم خدمات للكيانات الاستيطانية التي تستهدف النساء وتفرغهن من إنسانيتهن.


في الواقع، يتم ترسيخ هذه المعاملة من خلال الإعلام، الذي يعرض المرأة كسلعة أو كطرف متطرف. وهذا يشمل استخدام الخطاب الإعلامي في تصوير النساء الفلسطينيات، على سبيل المثال، كمناضلات إرهابيات، في الوقت الذي يتم فيه تقديم النساء الإسرائيليّات على أنهن رمز للتحرر والحداثة. وهذه الصورة ليست فقط تجسيدًا للتمييز بل هي أداة لتبرير القمع والعنف ضد النساء الفلسطينيات، وتجريدهن من إنسانيتهم.


بهذا الشكل، يتضح أن التحديات التي تواجه النساء ليست مقتصرة على سياق اقتصادي أو اجتماعي محلي، بل هي نتيجة لنظام عالمي يستغل المرأة ويشوه صورتها لتحقيق مصالحه، سواء في الداخل أو في العالم العربي والعالم الثالث.


يقول ماركس إن التغييرات الاجتماعية العظيمة مستحيلة دون الثورة النسائية، وهذا التصريح يعكس عمق الدور الذي تلعبه المرأة في إحداث التحولات الاجتماعية. صحيح أن الواقع الحالي قد يبدو مظلمًا بالنسبة للنساء، لكننا إذا أردنا التغلب على هذا الواقع المظلم، يجب علينا أن نعي أمرًا بالغ الأهمية: أن نضال النساء ضد هذه المنظومة القمعية ليس أمرًا يقتصر عليهن فقط، بل هو نضال يعنينا جميعًا، سواء كرجال أو نساء أو أطفال، سواء كنا في الغرب أو في الشرق تحت الاستعمار.


إن القمع الذي تفرضه المنظومة الاقتصادية والاجتماعية لا يقتصر على المرأة فقط، بل يمتد ليشمل جميع فئات المجتمع. فالرجل الذي يعيش تحت هذه المنظومة يعاني أيضًا من الاستغلال والقهر، وكذلك الطفل الذي يُحرَم من الفرص بسبب السياسات الجائرة. هذا الاستغلال يطال الجميع، ويعزز من استمرار الأنظمة القمعية، سواء كان ذلك في سياق الاستعمار الغربي أو الأنظمة الاقتصادية الرأسمالية التي تهمّش الكرامة الإنسانية.


لذلك، إن دعم نضال النساء من أجل حقوقهن هو أمر حتمي وضروري ليس فقط من أجل النساء، بل من أجل الجميع. يجب أن نفهم أن هذا النضال جزء لا يتجزأ من النضال ضد الهيمنة الاقتصادية والاستعمارية، وأن الظلم الواقع على النساء هو انعكاس للظلم الذي يعانيه المجتمع ككل. فالتغيير الفعلي يتطلب أن نتكاتف جميعًا ضد هذه المنظومات الفاسدة التي تستفيد من استغلال الإنسان لغيره.


ولكن يجب أن نكون حذرين من أن نكون جزءًا من أي خطاب ليبرالي قد يبدو مغريًا في ظاهره، لكنه لا يقدم حلولًا حقيقية لمشكلة الاستغلال المستمر. قد تُقدّم بعض الأفكار بصبغة ليبرالية متلونة، تجعلنا نعتقد أننا نسير نحو التغيير، بينما في الواقع هي تظل جزءًا من المنظومة الاستغلالية نفسها. لذلك، علينا أن نتبنى خطابًا نضاليًا حقيقيًا يستند إلى العدالة والمساواة، ويعمل على تنقية الحركات الاجتماعية من كل العناصر التي قد تضعف نضالنا ضد الهيمنة الاقتصادية والعسكرية.


بالتالي، علينا أن نبدأ بأنفسنا ونطرح الأسئلة العميقة حول كيفية التغيير الفعلي، ونتعاون في بناء حركة شاملة تسعى إلى التحرر من القيود التي تفرضها هذه المنظومات الفاسدة، سواء كانت من خلال الهيمنة الاقتصادية أو الاستعمارية.

Popular posts from this blog

‏ الاحتلال الحنين رزق : شهادة عن الحرب النفسية الإسرائيلية ضد سكان قطاع غزة

فروقات التنمية الاقتصادية بين ألمانيا الشرقية والغربية : تحليل تاريخي واقتصادي