الطريق الى غزة

 الطريق الى غزة

اليوم يومُ جمعة، ووالدك، لسببٍ لا تفهمه، استيقظ عند السادسة صباحًا وطلب منك أن تذهب لتجلب له الحمص والفلافل، رغم أن الدنيا ما زالت نائمة. لكن لا مفرّ من الأمر، فلا خيار لك سوى الطاعة كي لا تبدأ نهارك بمشكلة. تنهض على مضض وتخرج لتشتري الفلافل. تقف في الدور أمام العامل الذي يبدو نصف مستيقظ، عين مفتوحة وأخرى نائمة، ومع ذلك ترى بين يديه عجبًا؛ يقلي كل حبة فلافل بحجمٍ واستدارةٍ دقيقة، يقلبها في الزيت بمهارة، ويعرف تمامًا متى نضجت، رغم أنك تكاد تجزم أنه ما زال غارقًا في النعاس.

تتساءل في نفسك: كيف يفعل ذلك؟
الجواب بسيط: هذا الرجل يعمل في المطعم منذ خمس عشرة سنة، حتى أصبحت عملية القلي مبرمجة في دماغه. لم يعد يحتاج إلى تركيزٍ أو وعيٍ كامل، فقد ترسخت المهارة في لاوعيه، يؤديها بتلقائية تامة. لكن لو أخرجته من مكان عمله، من منطقة راحته، فسيجد نفسه عاجزًا عن الأداء بنفس الكفاءة.

وهكذا هو دماغ الإنسان؛ مع التكرار، تتحول بعض الأفعال إلى سلوكٍ غريزي، تُنجز بلا تفكير.
وفي الحديث عن الصهيونية وعلاقتها بالإبادة الجماعية، يبدو الأمر مشابهًا؛ فالعقلية الصهيونية باتت تمارس الإبادة على نحوٍ غريزي، كما لو كانت جزءًا من تكوينها النفسي العميق. وفي هذه المقالة، سأوضح كيف أن الذهنية الإسرائيلية مهيأة في لاوعيها لممارسة الإبادة، وكيف تجلّى هذا النموذج بوضوح في قطاع غزة خلال العامين الأخيرين.

يوم السابع من أكتوبر، قررت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وعدد من فصائل المقاومة الفلسطينية اقتحام السياج الفاصل بين قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، في عملية أفضت إلى مقتل أكثر من ألف مستوطن وأسر أكثر من مئتين. ومن هنا بدأت حرب إبادة على قطاع غزة تحت شعار «استعادة الأسرى».
ما لم يدركه العالم، أو تظاهر بالعمى، هو أن العقلية الصهيونية بسيكولوجيتها كانت ستردّ بغضب إبادي جماعي تحت ذريعة استعادة الأسرى والقضاء على حماس. لكن زيف هذه الشعارات واضح: فليس وقوع عملية مثل عملية السابع من أكتوبر شرطًا لتفعيل الغريزة الإبادية لدى هذه العقلية؛ وجود الفلسطيني نفسه، مع عوامل تاريخية وسياسية أخرى، يكفي لإضفاء الشرعية المزيفة على الإبادة وتسريع وتيرتها، وهو ما حدث بالفعل.

صدم العالم المنفصل عن طبيعة الصراع العربي–الإسرائيلي يومَ التاسع من أكتوبر حين وصف وزير الدفاع الإسرائيلي السابق يواف غالانت الفلسطينيين بأنهم «حيوانات بشرية»، تصريحٌ سلبهم إنسانيّتهم. لكنّ الواقع يبيّن أنّ غالانت، رغم منصبه، هو نتاج عقلية صهيونية أوسع، عقلية تمارس الإبادة أحيانًا بآليات لاشعورية، من دون حاجةٍ دائمةٍ إلى خططٍ معقّدة. الخطوة الأولى في ذلك هي نزع إنسانية الآخر: حين تصف وسائل إعلام أو خطابات رسمية الفلسطينيين بأنهم متعصّبون دينيًا، يقدّسون الموت، لا قيمة لهم مادياً، أو مجرد لاجئين مشردين في مخيّمات، تُزال القيود الأخلاقية وتُسهَّل ممارسات العنف الممنهجة بحقهم.

بعد ذلك اتجهت العقلية الإسرائيلية إلى استهداف جانبٍ آخر في مسرح الإبادة—وهو المجتمع الإسرائيلي نفسه. قبل أن تبدأ عملية الترويج والتعبئة النفسية للإبادة، عملت هذه العقلية على صهر المجتمع الإسرائيلي المتنوّع في أعراقه ولغاته ومعتقداته وبلدان أصله وأحياء سكنه، لتجري تضبيطه على نحوٍ واحدٍ قادرٍ على توجيه طاقاته الجماعية نحو هدف واحد: الإبادة.

وسائل الإعلام العربية، التي انبهرت بمشاهد «الخلافات الإسرائيلية الداخلية»، لم تدرك أن هذه الخلافات كانت نزاعاتٍ حول إدارة آليات الإبادة لا حول مشروعيَّتها أو وجودها؛ فالإبادة كانت جزءًا متأصلًا في تكوين الوعي الجمعي الصهيوني. لذا أبتدع البعض سردياتٍ عن «انهيارٍ داخلي» لإسرائيل، غافلين أن العقلية الإسرائيلية، كرد فعلٍ لاواعي، جمعت كل أطر المجتمع الاستيطاني المختلفة تحت مظلَّةٍ واحدةٍ وسخَّرتها لخدمة هدفٍ إبادي.

استُخدمت لذلك مصطلحاتٌ وصورُ نمطٍ نفسية أوجدت فاصلًا بين «نحن—الإسرائيليون المتحضّرون ذو الثقافة الغربية والشواطئ المتقدّمة تقنيًا» و«هم—الفلسطينيون: إسلاميون متشدّدون، متخلّفون، يسخرون حياتهم للعنف والإرهاب». مثل هذه الفواصل النفسية لم تكن سوى خطوةٍ استجابةٍ إسرائيلية لاواعية في المرحلة الثانية من عملية الإبادة الموجّهة ضد هؤلاء.

صدم العالم — كعادته — عند وقوع مجزرة مستشفى المعمداني، ليس لأن الحادثة كانت مفاجِئة؛ فالعالم شاهد عملية إبادة متواصلة منذ عام 1948. بل كانت الصدمة في رفعِ سقفِ الوحشية الإسرائيلية بشكلٍ لم يَخفَ على أي باحثٍ مُلمّ بالعقلية الجمعيّة الإسرائيلية وتصرفاتها اللاواعية تجاه الفلسطينيين.

برفعها لهذا السقف، مارست إسرائيل ما يمكن وصفه بالمرحلة الثالثة من الإبادة الجماعية: التطبيعُ مع الإبادة بكل تفاصيلها. سقوطُ الحواجز النفسية جعل من يرتكبون الجرائم يرون أفعالهم ضمنَ الإطارِ المعمولِ به—لا شذوذاً عن المألوف—وهذا يمنح المستوطنين دافعًا لممارسة العنف كأمرٍ اعتيادي.

أما النتيجةُ الأخطر فكانتُ أنّ الدولة لم تعدْ بحاجةٍ لتبرير كل جريمةٍ على حدة، بل صار ممكنًا رفعُ مستوى العنف دوريًا لتقليلِ العبء النفسي عن المنفذين. بتحوّل الإبادة إلى آليةٍ ذاتية التشغيل، لم تعدْ مرتبطةً فقط بأفرادٍ أو زعماءٍ سياسيين؛ بل باتت راسخةً في لاوعي منظومةٍ كاملة، ما يجعلها أكثر قدرةً على الاستمرار والتكثيف.

إسرائيل في البداية لم تضع خطةً لعمليّةٍ عسكريةٍ محدودةٍ أو سريعة بمشاركة قوات نخبوية فحسب، بل ركَّزت على تصميمٍ إبادي أوسع لقطاع غزة بأسره. ولتحويل هذا التصميم إلى فعلٍ مستمرّ، سعت العقلية الإسرائيلية إلى إدخال الإبادة في قطعٍ من الواقع اليومي لغزة، وصولاً إلى ما أُطلق عليه المرحلة الرابعة: «بقرطة» الإبادة (أي ميكنتها وتحويلها إلى عملٍ روتيني ومؤسساتي).

في هذه المرحلة، تصبح الإبادة جزءًا من العمل الحكومي المتعدّد على مستويات القرار ومصادره؛ فلا يشعر المستوطن—الجندي أو الموظف—أنه يقوم بحدثٍ استثنائي، بل يؤدي وظيفةً محددةً ومكررةً داخل منظومة قائمة، فتخفّ عنه التكلفةُ النفسية، وتُؤمّن له شبكة حمايةٍ مؤسسية تبرّر قراره وتحصّنه من المساءلة الفردية.

تلعب القيادات العسكرية والسياسية ونخب المجتمع الاستيطاني دورَ الدرع والشرعية؛ فهي تجعل من قرار القتل قرار منظومة، لا قرار فردٍ يتحمَّل تبعاته وحده. ومن أبرز مظاهر هذه الميكنة: نشر أوامر الإخلاء، تنظيم كل جوانب الحياة اليومية في القطاع، وتحديد مناطق «ممنوع العودة» إليها—ما يحوّل العمل الإبادِيّ من فعلٍ فرديٍّ إلى إجراءٍ نظاميٍّ متكامل.

وبذلك تصبح سياسات الإبادة لا مرتبطة بأشخاصٍ بعينهم على سدة الحكم، بل متجذّرةً في لاوعي المنظومة الصهيونية وبنيتها الإبادية، تستمر طالما بقيت هذه العقلية حاضرةً ومهيمنة.

اليوم، وبعد أكثر من سنتين على الإبادة المستمرة في قطاع غزة، يتبيّن أن هذه التصرفات ليست استثناءً في سلوك من يدرسون العقلية الصهيونية، بل هي بفعلها سلوكٌ غريزيٌّ متجذّر: يكفي أن يلتزم المرء بكونه «إسرائيليًا» ليُمارسها، إذ غدت النزعة الإبادية عندهم مثل تركيب قطع الليغو لدى الأطفال أو كقلي الفلافل لدى العامل المتمرِّس — فعلٌ منهجيٌّ راسخ في لاوعي تلك العقلية.
وليس صحيحًا ما تصدّره بعض وسائل الإعلام العربية من أن هذه الأفعال مستهجَنة في العمق الصهيوني وخاضعة للمساءلة، ولا ما تروّج له وسائل غربية من أنها مجرد أخطاء هامشية يمكن إصلاحها بتغيير حكومة أو إقصاء خطيبٍ أو وزير؛ بل هي منهجية مُمَكَّنة ذاتية التشغيل. وللتخلّص منها لا يكفي تشخيصٍ سطحي متكرر، بل لا بدّ من معالجة المرض واستئصال الورم من جذوره.

فكما يقف العامل نصف نائمٍ أمام الزيت يغمس الحبات واحدةً تلو الأخرى دون وعيٍ منه، تقف آلة الإبادة الإسرائيلية تُكرّر فعلها ببرودٍ تام، لا تستيقظ ولا تشعر. والخطر كل الخطر، حين يغدو القتل عادةً يومية لا تحتاج إلى قرارٍ أو وعيٍ، بل تجري كما يجري الزيت في المقلاة.

Comments

Popular posts from this blog

‏ الاحتلال الحنين رزق : شهادة عن الحرب النفسية الإسرائيلية ضد سكان قطاع غزة

كيف تسهم الاشتراكية في تعزيز استقلالية المرأة ؟