أمريكا في مرآة الزمن : من قمة الهيمنة إلى خيوط التراجع
أمريكا في مرآة الزمن : من قمة الهيمنة إلى خيوط التراجع
هل سمعت يومًا بمقولة: "كل الطرق تؤدي إلى روما"؟ قد تبدو لك هذه العبارة غريبة بعض الشيء، ففي عالمنا الحديث، خاصة بعد الثورة الصناعية، من الطبيعي أن تربط الطرق بين مختلف المدن. لكن إذا عدنا بالزمن إلى ما قبل عصور التصنيع، سنجد أن هذه العبارة كانت تعبر عن حالة استثنائية للغاية. روما تميزت عن غيرها من المدن التي كانت صغيرة ومعزولة بسبب العوائق الجغرافية وندرة شبكات النقل. ما جعل روما حالة فريدة هو أن الرومان استغرقوا نحو ستة قرون لبناء شبكة الطرق الشهيرة التي ربطت كل أرجاء الإمبراطورية بروما، مما جعلها مركزًا لا مثيل له في ذلك الوقت.
عند الحديث عن تاريخ النقل، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو النقل البري، الذي كان غالبًا يتسم بالصعوبة الشديدة بسبب العوائق الجغرافية والتكاليف الباهظة لبناء الطرق. هذه التحديات كانت سببًا رئيسيًا في وقوع العديد من الأزمات في تلبية الاحتياجات البشرية. على سبيل المثال، بين عامي 1500 و1778، عانت فرنسا من عشرات المجاعات على الرغم من كونها أكبر منتج للغذاء في أوروبا. وكان السبب وراء ذلك هو صعوبة النقل البري وعدم كفاءته في توزيع المواد الغذائية. إنشاء شبكة طرق قادرة على ربط المدن الفرنسية وتلبية احتياجاتها الغذائية كان يتطلب جهدًا هائلًا من حيث الوقت والموارد. لذلك، لجأ الإنسان إلى وسيلة نقل بديلة، وهي النقل البحري، الذي لا يتطلب إنشاء شبكات طرق معقدة، إذ تقوم المياه بدور الطرق، مما جعلها وسيلة أكثر فعالية لتلبية احتياجات المجتمعات.
اختراع الإنسان للسفن أتاح له القدرة على نقل كميات ضخمة من البضائع بتكلفة أقل بكثير مقارنة بالنقل البري. فعلى سبيل المثال، كانت روما تستورد احتياجاتها من القمح من مصر، حيث كانت تكلفة نقل القمح بحرًا من مصر إلى روما أقل من تكلفة نقله برًا من مدن مجاورة لا تبعد سوى 100 كيلومتر عن روما. هذه القدرة الفريدة للنقل البحري، التي تتيح نقل كميات أكبر من البضائع بتكلفة أقل، ساهمت في إعادة تشكيل أنظمة الحكم والإدارة في الإمبراطوريات القديمة، حيث أصبحت التجارة البحرية عنصرًا أساسيًا في اقتصادياتها واستراتيجياتها.
نتيجة لذلك، بدأت العديد من الإمبراطوريات في العالم القديم بحفر قنوات مائية تربط بين المدن لتسهيل النقل، كما حدث في مدينة البندقية بإيطاليا. كما لجأت هذه الإمبراطوريات إلى المغامرة والبحث عن ممرات مائية جديدة لتوسيع نطاق تجارتها، وهو ما أدى إلى ظهور الاكتشافات الجغرافية الكبرى، مثل طريق رأس الرجاء الصالح واكتشاف قارات العالم الجديد كأمريكا الشمالية والجنوبية وأستراليا. ومن خلال هذه الرغبة في العثور على أسواق جديدة للتبادل التجاري، يمكنك فهم كيف نشأ مفهوم الاستعمار الكلاسيكي. فقد كانت الإمبراطوريات تعتمد على مستعمراتها لتلبية احتياجاتها التجارية، إذ لم يكن هناك مفهوم للتجارة الدولية كما نعرفها اليوم. كانت التجارة في ذلك الوقت محصورة بين الإمبراطورية ومستعمراتها فقط، مما عزز سيطرة الإمبراطوريات على موارد وأراضي بعيدة.
مع تزايد اعتماد الإمبراطوريات على مستعمراتها لتلبية احتياجاتها التجارية وتوفير الأيدي العاملة، التي كانت تعتمد بشكل كبير على تجارة العبيد، ظهرت الحاجة الملحة لتشكيل قوة بحرية قادرة على حماية السفن التجارية والمستعمرات من أي هجمات محتملة من إمبراطوريات أخرى. وهكذا، بدأت الأساطيل البحرية تنتشر، وأصبحت القوة البحرية معيارًا رئيسيًا لقياس هيمنة الإمبراطوريات اقتصاديًا وعسكريًا. تاريخيًا، نجد أن القوة العظمى في العالم كانت دائمًا مرتبطة بامتلاكها أكبر أسطول بحري، مما مكنها من استعمار أراضٍ بعيدة وحمايتها. فعلى سبيل المثال، في القرنين السابع عشر والثامن عشر، كانت إسبانيا هي القوة المهيمنة بفضل أسطولها البحري القوي، ثم انتقلت هذه الهيمنة إلى المملكة المتحدة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، عندما أصبحت بريطانيا تسيطر على البحار وتوسع إمبراطوريتها العالمية.
رغم قوة الإمبراطوريات البحرية، لم تتمكن أي منها من فرض سيطرة كاملة على العالم، حيث كانت مراقبة جميع البحار والمحيطات في عصر ما قبل الرادار مهمة مستحيلة. ولكن هذا الوضع بدأ يتغير مع بداية الثورة الصناعية، التي أحدثت طفرة هائلة في تاريخ البشرية. مع اختراع المحركات البخارية وتحول المدن إلى مراكز صناعية، ازدادت حاجة تلك المدن إلى الطاقة بشكل غير مسبوق. وهذا دفع الإمبراطوريات إلى استعمار أراضٍ أكبر لتلبية احتياجاتها من الموارد والطاقة.
مع توسع هذه الإمبراطوريات في استعمار المزيد من الأراضي، بدأ النقل البحري في التحول ليصبح أكثر فعالية. فالسفن التي كانت تعتمد في السابق على الرياح للإبحار أصبحت تعتمد على المحركات البخارية، ومع تقدم التكنولوجيا، تحولت هذه السفن لاحقًا إلى استخدام المحركات البترولية بحلول منتصف القرن العشرين. بالإضافة إلى ذلك، تغير هيكل السفن الذي كان يصنع من الخشب ليصبح معدنيًا، مما جعلها أسرع وأكثر كفاءة في تلبية احتياجات الإمبراطوريات المتزايدة.
هذا التغيير بعد الثورة الصناعية لم يقتصر فقط على السفن، بل شمل أيضًا الممرات المائية. فقد ظهرت في هذا العصر ممرات بحرية جديدة سهلت الحركة الملاحية، مثل قناة السويس وقناة بنما. بالإضافة إلى ذلك، تطورت أنظمة وتكنولوجيا الملاحة والمراقبة البحرية، مما جعل من السهل جدًا مراقبة هذه المساحات الواسعة من البحار والمحيطات.
أدى ذلك، بالتبعية، إلى انحدار المنظومة التجارية الدولية القديمة التي كانت تعتمد على وجود إمبراطوريات مكتفية بذاتها تعتمد على مستعمراتها حصريًا في التبادل التجاري، وظهور منظومة تجارية دولية جديدة بدأت تعتمد شيئًا فشيئًا على التجارة الدولية بدلاً من الاقتصادات القديمة المكتفية بذاتها. وهذا أسفر عن نهاية الشكل الكلاسيكي للاستعمار، وهو ما احتاج إلى حدث تاريخي قادر على إنهاء المنظومة القديمة بشكل كامل، وهذا الحدث كان الحرب العالمية الثانية.
شكلت الحرب العالمية الثانية حدثًا فارقًا في التاريخ، حيث تضررت الإمبراطوريات القديمة التي كانت تعتمد عليها المنظومة الدولية التجارية السابقة والشكل الكلاسيكي للاستعمار بشكل كبير. لقد تسبب الدمار الهائل في عدم قدرتها على الاستمرار في هذه المنظومة، التي كانت تتطلب تكاليف اقتصادية باهظة لا تستطيع تحملها. وحتى لو كانت قادرة على ذلك، كانت لديها أولويات أخرى تستدعي توجيه مواردها الاقتصادية نحو إعادة الإعمار.
هذا الواقع كان ينطبق على جميع تلك الإمبراطوريات، ولكن كان هناك استثناء واحد وهو الولايات المتحدة الأمريكية، التي لم تتعرض لأضرار الحرب على أرضها. بل كانت الحرب فرصة مثالية لها، حيث خرجت منها باقتصاد أقوى مما كان عليه قبل الحرب. إضافةً إلى ذلك، فإن حاجة بريطانيا إلى المدمرات أجبرتها على توقيع اتفاقية القواعد مقابل المدمرات مع الولايات المتحدة، مما مكن الأخيرة من امتلاك أسطول بحري ضخم.
وبفضل القوة الاقتصادية الكافية، تمكنت الولايات المتحدة من ضمان سيطرتها على جميع الممرات المائية الدولية. وبالتالي، بعد انتهاء الحرب وظهور المنظومة الجديدة، استطاعت أمريكا ملء الفراغ الذي حدث وفرض هيمنتها على الكوكب بشكل لم يكن هناك منازع له، باستثناء قوة أخرى وهي الاتحاد السوفييتي.
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، خرج العالم منها بقطبين متنازعَين: المعسكر الغربي، الذي هيمنت عليه الولايات المتحدة، والمعسكر الشرقي، الذي خضع لسيطرة الاتحاد السوفييتي. عند قراءة كيفية تشكُّل كل من المعسكرين، نجد أن المعسكر الشرقي نشأ نتيجة ظروف طبيعية خلال سياق الجبهة الشرقية للحرب، حيث تمكن الاتحاد السوفييتي من تحرير دول من التوسع الألماني وفرض عليها أنظمة سياسية موالية اقتصاديًا وعسكريًا له.
أما المعسكر الغربي، فقد تشكل اقتصاديًا بفضل خطة أمريكية تُعرف باسم "خطة مارشال"، حيث عرضت الولايات المتحدة تمويل إعادة الإعمار لدول الجبهة الغربية، مقابل تنازل تلك الدول عن حالة الاكتفاء الاقتصادي التي كانت تعيشها مع مستعمراتها وفتح الأسواق أمام رؤوس الأموال الأمريكية. عسكريًا، استغلت الولايات المتحدة قدرات تلك الدول العسكرية لتشكيل تحالف يُمكنها من الهيمنة على المنظومة الجديدة التي ظهرت بعد الحرب، وهو حلف الناتو.
في عالم يتقاسمه القطبين، من الطبيعي أن تجد نفسك في حالة توفر فيها مساحة أوسع من الحرية، خصوصًا مع وجود الاتحاد السوفييتي الذي كان داعمًا للعديد من الحركات التحررية في مناطق عانت من الاستعمار الكلاسيكي، مثل مصر والجزائر وجنوب إفريقيا وفيتنام وكوبا. ولكن مع مرور الوقت، بدأ تأثير هذه الحركات التحررية في التراجع، حيث انحدر دعم الاتحاد السوفييتي، الذي كان الداعم الأكبر لتلك الحركات، خصوصًا بعد عصر الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين.
ومع دخول الاتحاد السوفييتي في حرب استنزاف في أفغانستان، بدأ يتشكل نظام عالمي جديد يهيمن فيه قطب واحد، هو الولايات المتحدة. إذ بدأت الولايات المتحدة في تعزيز هيمنتها العسكرية من خلال تمدد حلف الناتو وزيادة وجود قواعدها العسكرية في جميع أنحاء العالم، خاصة في منطقة الخليج العربي. كما عززت هيمنتها الاقتصادية عبر المؤسسات المالية التي تمثل نواة الشكل الحديث للاستعمار، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، حيث كانت هذه المؤسسات تحت السيطرة الأمريكية.
ثقافيًا، انتشرت ثقافة الاستهلاك وظهرت المنتجات الثقافية الأمريكية، مثل هوليوود، ومطاعم الوجبات السريعة، والكوكاكولا. وتم ترسيخ هذه الهيمنة رسميًا كقطب أوحد في يوم انهيار الاتحاد السوفييتي.
انهيار الاتحاد السوفييتي وضع العالم في حالة استفراد من قِبل قطب واحد مهيمن، حيث سيطرت الولايات المتحدة على كافة المسارات الدولية ما بين عامي 1991 و2001. وظهرت تلك الهيمنة بأقصى درجاتها في عمليات مثل قصف الناتو ليوغوسلافيا، والحصار والعقوبات الاقتصادية التي فرضت على العراق بعد غزو الكويت.
ومع دخول الألفية الجديدة، بدأت تظهر تحديات لهذا النظام أحادي القطب. دول مثل الصين وروسيا وإيران، بالإضافة إلى دول صاعدة مثل الهند والبرازيل، بدأت تأخذ مواقعها كأقطاب جديدة تؤثر على المسارات الدولية. هذا التغير يشير إلى عودة تدريجية للنظام متعدد الأقطاب الذي كان سائداً قبل الحرب العالمية الثانية.
سبب تراجع هيمنة القطب الواحد يعود إلى عدة عوامل، أبرزها ارتفاع تكلفة فرض هذه الهيمنة على العالم. الولايات المتحدة، في بداياتها بعد الحرب العالمية الثانية، كانت تمتلك القدرة والإرادة لفرض هذا النظام بسبب ظروف اقتصادية مواتية، ووجود قطب منافس هو الاتحاد السوفييتي. ولكن بعد انهياره، وتزايد التحديات من الدول الأخرى، أصبحت تكلفة الحفاظ على تلك الهيمنة باهظة للغاية.
أبرز الأحداث التي أظهرت ارتفاع تلك التكلفة تشمل غزو أفغانستان، غزو العراق، التوسع الصيني في منطقة غرب المحيط الهادي، مشروع الصين لإعادة إحياء طريق الحرير التجاري، وأخيراً الحرب الروسية الأوكرانية، ومعركة "طوفان الأقصى".
في نهاية الأمر، من الضروري إدراك أن هيمنة قطب واحد على العالم، على الرغم من فوائدها الكبيرة لذلك القطب، تأتي أيضًا بتكاليف باهظة قد تكون أكثر من قدرة أي قوة، مهما كانت الظروف التاريخية والجغرافية مواتية، على تحملها لفترة طويلة. لهذا السبب، نجد أن الكوكب كان تاريخيًا محكومًا بنظام متعدد الأقطاب، وكانت القوى الصاعدة تستفيد عادةً من هذه التعددية وتبني عليها.
هذا النمط مألوف في التاريخ العالمي بشكل عام، وفي التاريخ العربي والإسلامي بشكل خاص. فمثلاً، صعود الإمبراطورية الإسلامية كان نتيجة لنشأتها في عالم متعدد الأقطاب، حيث كانت هناك قوى كبرى مثل الرومان والفرس. واستطاعت الإمبراطورية الإسلامية السيطرة على العالم لفترة كقطب واحد، لكن سرعان ما انهارت بسبب التحديات المتأصلة في محاولة السيطرة على العالم كليًا، وهي مهمة أثبت التاريخ أنها أكبر من أن يتحملها أي قطب بمفرده.
الدرس الأهم الذي يمكننا استخلاصه من قراءة التاريخ هو أن الهيمنة الأمريكية الحالية على العالم ليست حالة لا مفر منها. بالعكس، هذه الهيمنة تظهر تدريجيًا علامات الانحدار. لذا، فكرة التحرر من تلك الهيمنة والصعود كقوة فاعلة في عالم أكثر حرية ما بعد هذا النظام هي مسألة إرادة بالأساس وليست مسألة إمكانيات. لقد حققنا ذلك سابقًا، وبلا شك يمكننا تحقيقه مجددًا.