كوريا : كيف حولت الصدمة مجرى أمة ؟
كوريا : كيف حولت الصدمة مجرى أمة ؟
تخيل نفسك طفلًا في العاشرة من العمر، واليوم يوم خميس. قررت التظاهر بالمرض حتى لا يرسلك أهلك إلى المدرسة، لأنك تعلم أن برنامجك المفضل “توم وجيري” سيبدأ بعد قليل. هذا الكرتون الذي أحببناه جميعًا، وكنا نشعر بالسعادة عندما ينتصر جيري ويتلقى توم الضرب، دون أن نتساءل عن حقيقة ما يحدث.
لكن دعني أخبرك، يا عزيزي، أنك كنت -وما زلت إلى حدٍ ما- مضحوكًا عليك. إذا نظرنا إلى الصورة الكبرى، فسنجد أن المنطق يملي عليك الانحياز إلى توم، صاحب البيت الذي يحاول الدفاع عن منزله والقيام بواجبه. في المقابل، جيري ليس سوى متطفل، معتدٍ على بيتٍ ليس له. ومع ذلك، لم نكن ندرك هذا عندما كنا نشاهد البرنامج.
السر يكمن في الإعداد الذكي لهذا الكرتون. عندما يظهر جيري، تُشغَّل موسيقى مريحة ومبهجة تُثير فيك مشاعر الفرح والتعاطف، فتتمنى له الانتصار. أما عندما يظهر توم، فتُشغَّل موسيقى “شريرة” تُوحي بأنه العدو أو الظالم، مما يجعلك في اللاوعي تتعاطف مع جيري المخطئ وتحتقر توم، صاحب الحق.
هذه الحيلة البسيطة في توظيف الموسيقى جعلت أجيالًا بأكملها ترى الأمور من منظور مغلوط، فتتعاطف مع المعتدي وتُدين المدافع عن حقه. قد يبدو هذا مجرد كرتون بسيط، لكنه يعكس كيف يمكن للإعلام أن يُوجّه مشاعرنا، حتى دون أن ندرك ذلك.
عندما نتحدث عن كوريا الشمالية (جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية)، غالبًا ما تتجه أذهاننا تلقائيًا نحو مفاهيم مثل الديكتاتورية، السلاح النووي، الحاكم المجنون، الشعب الذي يُعبد قائده، الدولة المنغلقة، أو الدولة التي تُفقر شعبها لصالح جيشها. هذه الصور النمطية ليست نتاج تجارب شخصية أو معايشة فعلية، بل غالبًا ما تكون نتيجة روايات قيلت لنا عبر وسائل الإعلام الدولية التي تُعامل هذه الأفكار كحقائق مُطلقة.
المشكلة هنا ليست فقط في مدى صحة هذه الادعاءات، بل في أنها تُقدَّم خارج سياقها التاريخي والسياسي والاجتماعي. يتم تصوير كوريا الشمالية وكأنها ظاهرة غريبة، وكأن شكل الدولة ونظام الحكم فيها والمجتمع الذي نراه اليوم قد ظهر فجأة من العدم، متجاهلين تمامًا السياقات الأوسع التي ساهمت في تشكيلها.
إن فهم هذا السياق الأوسع ضروري جدًا. إذا أردنا أن نفهم لماذا أصبحت كوريا الشمالية على ما هي عليه اليوم، علينا أن نعود إلى جذور تاريخها: الاحتلال الياباني لشبه الجزيرة الكورية، الحرب الكورية المدمرة، التدخلات الأجنبية، التقسيم القسري بين الشمال والجنوب، والحرب الباردة التي جعلت كوريا الشمالية في مواجهة مباشرة مع القوى العظمى.
التعامل مع كوريا الشمالية كدولة منغلقة ومستبدة فقط لا يقدم حلاً، بل يزيد من تعقيد المشكلة ويقربنا أكثر من سيناريو كارثي، كحرب نووية قد تدمر الكوكب بأكمله. لذلك، يجب أن يكون تركيزنا على معالجة جذور المشكلة، وفهم كيف تشكلت هذه الدولة وسياساتها من خلال التفاعل مع القوى الخارجية والأحداث التاريخية، بدلًا من الاكتفاء بالنظرة السطحية التي تُقدَّم لنا.
السؤال الحقيقي ليس فقط “لماذا كوريا الشمالية هكذا؟”، بل “كيف يمكننا معالجة المشكلة بشكل جذري لتجنب كارثة عالمية؟”. هذا النوع من الفهم الأعمق هو المفتاح لحل الأزمة بشكل مستدام، بدلًا من الاكتفاء بإلقاء اللوم على طرف دون الآخر.
بالعودة إلى تاريخ بلد مثل كوريا، علينا أن نفهم محيطها الإقليمي وما يمكن تسميته بـ”الوحوش المحيطة” بها: الصين، اليابان، روسيا، ولاحقًا الولايات المتحدة. هؤلاء القوى الكبرى لعبت أدوارًا رئيسية في تشكيل الشخصية الكورية بكل تعقيداتها.
عند الحديث عن تاريخ شرق آسيا، لا يمكن تجاوز الصين، الدولة ذات العدد الأكبر من السكان، وأضخم جيش، وأفضل تكنولوجيا، وأحد أكثر أنظمة الحكم تطورًا في المنطقة. الحضارة الصينية لم تكن استعمارية بالمعنى الكلاسيكي، بل اعتمدت على نظام أشبه بالمحميات مع جاراتها مثل سريلانكا، الهند (في الشمال)، فيتنام، الفلبين، وأهمها كوريا. لكن الكوريين، على عكس جيرانهم، كانوا مهووسين بالصين إلى درجة أنهم تبنوا لغتها ودينها، وطبقوا نظام الحكم الصيني بكفاءة تفوقت على الصينيين أنفسهم.
مع ذلك، كانت الحضارة الصينية تمر بمرحلة من الانهيار البطيء، وهو انهيار لم يُدركه الكثيرون إلا بعد فوات الأوان. مع دخول عصر الاستعمار، بدأت القوى الأوروبية مثل بريطانيا، التي احتلت الهند، وفرنسا، التي استولت على فيتنام، وإسبانيا، التي سيطرت على الفلبين، بالتوسع. حتى الصين نفسها لم تسلم، حيث هزمتها بريطانيا في حرب الأفيون، مما مثّل إعلانًا فعليًا عن نهاية الحضارة الصينية ودخولها ما يُعرف بـ”قرن الإذلال الصيني”.
في خضم هذا السياق، كان الدور القادم على كوريا، لكنها لم تكن هدفًا للقوى الأوروبية هذه المرة، بل لوحش آخر يحيط بها: اليابان.
أهم سنة في التاريخ الكوري الحديث هي سنة 1895، السنة التي قررت فيها كوريا نزع صفة المحمية الصينية عن نفسها والتحول إلى بلد مستقل. في تلك الفترة، تبنت كوريا شكلًا حكوميًا ديمقراطيًا، وبدأت برامج التصنيع، وأدخلت تكنولوجيا سكك الحديد إلى البلاد. كما شهدت تلك المرحلة إنشاء العديد من الجامعات، لدرجة أن معظم الجامعات الكورية المتفوقة اليوم تعود أصولها إلى تلك الحقبة.
كوريا في ذلك الوقت كانت مطمعًا لكل القوى المحيطة بها. من الغرب كانت تواجه إمبراطورية صينية منهارة، ومن الشمال كانت روسيا القيصرية تسعى لتوسيع نفوذها، ومن الشرق أيضًا اليابان التي لم تُخفِ يومًا رغبتها في احتلال كوريا وضمها. أضف إلى ذلك الولايات المتحدة التي بدأت تبرز كقوة عالمية تسعى لتوسيع نفوذها.
في ظل هذه الضغوط، اضطرت كوريا إلى محاولة موازنة القوى العالمية للحفاظ على استقلالها. تعاونت مع الروس على أمل الحصول على دعمهم للنهوض بالبلاد وضمان استقلالها، مقابل أن تستفيد روسيا من كوريا عبر مد سككها الحديدية إلى الموانئ الكورية، لتتجنب معاناتها مع الموانئ المتجمدة.
لكن هذا التعاون أدى إلى تضارب المصالح بين روسيا واليابان، مما أشعل حربًا بينهما في عام 1904. انتهت الحرب بانتصار اليابان، واحتلالها لكوريا، لتبدأ حقبة جديدة من الهيمنة اليابانية على شبه الجزيرة الكورية.
الاحتلال الياباني لكوريا كان، بكل بساطة، أقل ما يقال عنه أنه كان احتلالًا قاسيًا وعنيفًا، ويمكن مقارنته (لكن ليس بمساواة تامة) بما تفعله إسرائيل اليوم في فلسطين المحتلة. اليابانيون جلبوا مستوطنين يابانيين لعيشوا في كوريا بالقوة، مما أجبر السكان الكوريين على الخضوع لسلطانهم. كانت اللغة الكورية محظورة، وكان الكوريون مجبرين على تعلم اللغة اليابانية بالقوة، بل حتى الديانة الشينتوية اليابانية كان يتم فرضها عليهم، مع إجبارهم على الإيمان بها.
اليابان حاولت طمس كل أشكال الحياة والوجود الكوري في شبه الجزيرة، بحيث تم محو الثقافة والهوية الكورية بشكل منهجي. من بين أسوأ الانتهاكات كانت تلك التي تعرضت لها النساء الكوريات، حيث كان يتم أخذهن من بيوتهن، وهن في سن صغيرة، وإيهامهن بحياة أفضل وفرص تعليمية. لكن الحقيقة كانت أنهن كن يُجبرن على تقديم خدمات حميمية للضباط اليابانيين في إطار ما يعرف بـ”النساء المستعبدات”. بعضهن كان يتم إرسالهن إلى اليابان نفسها لممارسة نفس الأعمال.
هذه الوحشية التي تعرض لها الشعب الكوري كان لا بد أن تنتهي. النهاية كانت عندما أعلنت اليابان استسلامها في نهاية الحرب العالمية الثانية، بعد القصفين النوويين في هيروشيما وناغازاكي، مما وضع حدًا لفترة من الظلم والاضطهاد الذي دام لسنوات.
غياب اليابان عن كوريا بعد استسلامها شكل أزمة كبيرة، لأن معظم المناصب الحكومية والإدارية كانت محتكرة من قبل اليابانيين، وبالتالي عندما رحلوا، وجد الكوريون صعوبة في ملء هذا الفراغ. بالإضافة إلى ذلك، كانت كوريا تجد نفسها مرة أخرى بين قوتين عظميين: الاتحاد السوفيتي الذي سيطر على الشمال، والأمريكان الذين فرضوا نفوذهم على الجنوب. وهنا ظهرت الحاجة الملحة لترتيب كيفية إدارة ملف كوريا.
الصفقة التي تم التوصل إليها كانت أن ضابطين أمريكيين تم تكليفهما بمهمة تحديد تقسيم كوريا. في صباح أحد الأيام، فتح الضابطان خريطة كوريا، واستخدما مسطرة لرسم خط على خط العرض 38، ثم قدموا هذا المقترح للحكومة الأمريكية التي وافقت عليه. بعد ذلك، قدم الأمريكان هذا المقترح للسوفييت الذين وافقوا عليه أيضًا. كان من المفترض أن يتم تقسيم كوريا بشكل مؤقت، كما حدث في النمسا، على أن تجرى انتخابات لإعادة توحيد البلاد لاحقًا.
لكن سرعان ما بدأ يظهر تضارب في المصالح بين القوتين العظميين. الاتحاد السوفيتي قدم شخصية وطنية متفق عليها لتولي الحكم في كوريا الموحدة، ولكن أمريكا رفضت هذا العرض، حيث كانت ترفض فكرة أن تكون كوريا محايدة. كانت الولايات المتحدة تسعى لأن تكون كوريا قاعدة عسكرية لها في المنطقة، وهو ما لم يتوافق مع رؤية السوفييت. في هذه الأثناء، طالبت الولايات المتحدة بحل الملف الكوري في الأمم المتحدة، لكن الاتحاد السوفيتي قاطع هذه الفكرة بسبب شكه في نزاهة التصويت في المنظمة.
ومع مرور الوقت، بدأت ملامح تقسيم كوريا تظهر بوضوح، مما أدى إلى فصل البلاد التي كانت موحدة لأكثر من ألف سنة.
من أكثر الأمور التي يتم التدليس فيها هي فكرة أن الوحدة الكورية كانت تواجه عائقًا من الشمال فقط. هذه النقطة مضللة جدًا، حيث أن التاريخ يظهر أن الجنوب كان هو الذي يعوق جهود إعادة التوحيد. على سبيل المثال، كانت هناك حكومة كورية معترف بها دوليًا ومقرها الصين، وكانت هذه الحكومة تطرح برنامجًا يضمن عودتها للحكم في شبه الجزيرة. لكن الولايات المتحدة وحكومة الجنوب، التي كان معظم أعضائها من الكوريين المتعاونين مع الاحتلال الياباني، رفضوا هذا العرض. بل وصل الأمر إلى أنهم جرموا أي تواجد لهذه الحكومة، لدرجة أن الكوريين في الجنوب بدأوا بالمظاهرات والعمل العنيف المسلح ضد التواجد الأمريكي.
لكن للأسف، تم قمع هذه الحركة من قبل الجيش الكوري الجنوبي الذي كان حديث العهد والمدعوم من قبل الولايات المتحدة. وبعد أن ضمنت أمريكا أن الانفصال قد تم، عرضت إجراء انتخابات، لكن المفاجأة كانت أن الكوريين في الجنوب كانوا ما زالوا يطالبون بالوحدة. ورغم ذلك، تم قمعهم، وفاز في الانتخابات شخص له علاقات قوية مع أمريكا وكان يحظى بشعبية بين الكوريين لأنه كان أحد أعضاء جماعات الضغط التي تعمل لصالح الكوريين في الكونغرس الأمريكي.
بعد فترة قصيرة، انسحبت الولايات المتحدة من كوريا الجنوبية، وأعلنت دولة “جمهورية كوريا” في الجنوب. بعد ثلاثة أسابيع، أعلنت حكومة الشمال دولة “جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية”، ليبدأ بذلك تقسيم كوريا بشكل رسمي.
في الشمال، تم تشكيل حكومة كورية على الطراز السوفيتي تحت قيادة كيم إيل سونغ، الشخص الذي كان أحد قادة المقاومة الكورية ضد الاحتلال الياباني، حيث شارك في النضال في كل من كوريا والصين. بعد تحرير كوريا من الاحتلال الياباني، تم تجنيد كيم إيل سونغ رسميًا في الجيش الأحمر السوفيتي.
كانت سياسة حكومة الشمال مشابهة لتلك التي اتبعها الاتحاد السوفيتي، حيث تمت عمليات تأميم واسعة للمصانع والأراضي التي كانت تملكها العائلات الكورية الغنية، التي كانت متعاونة بشكل كبير مع الاحتلال الياباني. هذه العائلات كان يُمكن مقارنتها بتلك الفئات التي قد تكون متعاونة مع الاحتلالات في أماكن أخرى، مثل جماعة رام الله في فلسطين.
مع بداية عمليات التأميم هذه، هربت العديد من هذه العائلات إلى الجنوب، حيث انضم العديد منهم إلى الحكومة الكورية الجنوبية الجديدة. وبدأ بذلك يتشكل حجر الدومينو الذي سيوصل كوريا إلى حربٍ مدمرة. كان الصراع بين الشمال والجنوب، المدعومين من السوفييت والأمريكان على التوالي، قد بدأ يشهد ملامح التوتر، ليصل في النهاية إلى الحرب الكورية في عام 1950.
الحرب الكورية هي التي شكلت بشكل كبير هوية كوريا الشمالية، وفهم الصدمة التي تسببت فيها هذه الحرب هو أمر ضروري لفهم تعقيدات الشخصية الكورية الشمالية. بدأت الحرب بهجوم واسع من كوريا الشمالية على الجنوب باستخدام معدات عسكرية سوفيتية وصينية، مما منحها تفوقًا شديدًا على الجنوب. ومع ذلك، استطاع الجنوب استعادة أراضيه وبدأ بالتقدم حتى وصل إلى حدود الصين، وهو ما دفع الصين للتدخل لصالح الشمال، مما أدى إلى توقف تقدم الطرفين على الخط الذي أصبح فيما بعد المنطقة المنزوعة السلاح بين الكوريتين.
من الجدير بالذكر أن المنطقة المنزوعة السلاح، بسبب غياب الأنشطة البشرية فيها، أصبحت موطنًا لفصائل حيوية من الطيور والحيوانات والنباتات، مما ساعد على الحفاظ على التنوع البيولوجي في هذه المنطقة.
لكن الحرب الكورية كانت أيضًا فترة من الإجرام الأمريكي، حيث استخدمت الولايات المتحدة ما يقارب 635 ألف طن من المتفجرات، ما يعادل حوالي 42 قنبلة هيروشيما. وقد تفاخر الجنرال الأمريكي كورتيس لي ماي بقتل ما يقارب خمس الشعب الكوري من خلال حملات القصف، التي أسفرت عن مقتل ما بين مليون ونصف إلى مليوني كوري شمالي.
إرث الولايات المتحدة الدموي هو الذي شكل عدائية كوريا الشمالية تجاهها، وليس كما يحاول الإعلام تصويره بأن الكوريين مجرد “مجانين” يكرهون الثقافة الأمريكية ونظامها الاقتصادي. الحقيقة هي أن هذه العدائية ناتجة عن إرث من العنف والقصف الذي لم تتم محاسبته من قبل الولايات المتحدة، والذي لا تزال كوريا الشمالية تتذكره بمرارة. هذا الإرث، الذي تضمن مقتل الملايين من الكوريين الشماليين أثناء الحرب الكورية، هو ما يفسر الكثير من المواقف السياسية العدائية لكوريا الشمالية تجاه الولايات المتحدة، التي ما زالت تسعى لتحقيق أهدافها في المنطقة، حتى لو كان ذلك يعني نشوب حرب عالمية ثالثة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الانعزالية التي تنتهجها كوريا الشمالية تفسر في كثير من الأحيان بمعزل عن السياق التاريخي لتجربة كوريا مع الانفتاح في عام 1895، والتي انتهت باحتلال اليابان لها. هذه التجربة تركت جروحًا عميقة في الذاكرة الكورية، ما جعلها تعيش بعقلية الخوف من العودة إلى الاحتلال والاستعباد. ولذلك، اختارت كوريا الشمالية الانغلاق على نفسها وبناء جيش قوي قادر على حماية البلاد.
قد يتساءل البعض عن سبب هذه المخاوف رغم أن زمن الاحتلال قد انتهى، ويعتبرونها مجرد أوهام. لكن الحقيقة هي أن الكوريين الشماليين دارسون جيدون للتاريخ، وقد تعلموا من تجارب معمر القذافي في ليبيا وصدام حسين في العراق. فهم يدركون أن التخلي عن قدراتهم العسكرية، أو الانفتاح على العالم دون ضمانات قوية، قد يؤدي إلى تكرار نفس المصير الذي مر به هذان الزعيمان. لذا، لجأت كوريا الشمالية إلى تعزيز قوتها العسكرية، بما في ذلك تطوير السلاح النووي، كوسيلة لحماية نفسها وضمان بقائها.
اليوم، كوريا الشمالية تمر بأزمة اقتصادية شديدة، حيث سقط الاتحاد السوفيتي الذي كان الضامن والممول الأكبر لنهضتها، تزامنًا مع سياسة العقوبات الاقتصادية الأمريكية التي ساهمت في تفاقم الوضع. البلد يعاني من فقر شديد، وهو جزء منه نتيجة فساد السياسات الحكومية والاستبداد، لكن المعاناة تتضاعف بشكل كبير بسبب سياسة أمريكا العدوانية ضد كوريا الشمالية، والتي تسعى للاستفادة من مواردها غير المستغلة ومن موقعها الاستراتيجي كخنجر في قلب الصين.
لذلك، عند قراءة أو التفاعل مع أخبار كوريا الشمالية، يجب أن نأخذ في الاعتبار السياق الكامل لهذه المعاناة لنفهم الأسباب التي شكلت الوضع المضطرب في كوريا الشمالية والجنوبية. للأسف، العديد من وسائل الإعلام تعرض هذه القصة بشكل مجتزأ وغير دقيق، مما يؤدي إلى تضليل الجمهور بشكل خطير، أحيانًا إلى درجة الفبركة. على سبيل المثال، كانت هناك إشاعة حول فرض كوريا الشمالية قصات شعر معينة على مواطنيها، وهي حقيقة مقتبسة من إعلان كوري شمالي لصالون حلاقة يعرض نماذج مختلفة من التسريحات. لكن تم اختلاق هذه القصة لخلق صورة مشوهة عن الكوريين الشماليين، مما يساهم في نزع الإنسانية عنهم ويسهل قبول أي عمل عدائي ضدهم في المستقبل.
في النهاية، الكوريون الشماليون هم مجرد بشر مثلنا تمامًا، لديهم حياتهم الخاصة التي يرغبون في عيشها، يتعلمون ويحبون ويتزوجون. لديهم أفلام ومسلسلات وأنشطة ترفيهية، إضافة إلى شبكة اتصالات وإنترنت محلي خاص بهم. كما توجد لديهم منتجعات ومرافق ترفيهية، وأنشطة رياضية وثقافية. لكن للأسف، عانوا كثيرًا في الماضي، وما زالوا يعانون بسبب دولة تعتبر حياتهم ثمنًا رخيصًا مقارنة بأرباح شركات السلاح التي تهدد حياتهم، أو شركات الطاقة التي تسعى للسيطرة على مواردهم.
من واجبنا كبشر أن نقدم لهم تطمينات حول مستقبلهم، وأن نضغط على الولايات المتحدة لوقف أنشطتها العدائية ضد كوريا الشمالية، والعمل على فتح مسار للسلام بضمانات حقيقية تطمئن الشعب الكوري. لقد حاول الكوريون الشماليون هذا الطريق أكثر من مرة، لكن الولايات المتحدة كانت ترفض الضغط وتقوم بتهديد الجنوب في حال قرر اتخاذ خطوات نحو هذا المسار.
لذا، إذا أردنا لعالم أولادنا أن يكون آمنًا في المستقبل، يجب علينا ضمان أن الكوريين الشماليين سيكون لديهم عالم آمن لهم أيضًا. قد يبدو هذا تحديًا صعبًا، لكنه ليس مستحيلاً إذا بدأنا بفهم السياق التاريخي والإنساني بشكل صحيح، وقدمنا حلولًا بناءً على ذلك.