كيف اعادت اتفاقيات التطبيع هندسة المجتمعات العربية ؟

 كيف اعادت اتفاقيات التطبيع هندسة المجتمعات العربية ؟


اليوم الجمعة، ووالدك قرر أن يخترع لك عملاً جديدًا ليشغلك به، فتذكّر فجأة أنه يملك مسجل أشرطة كان ينوي إصلاحه منذ عشرين عامًا ليستمع إلى أغنية إنت عمري لأم كلثوم على الكاسيت. وبينما كنت تبحث في صندوق الأشرطة القديم، وقعت يدك على شريط يحمل أغنية جوليا بطرس وين الملايين؟ الشعب العربي وين؟. قد أكون تأخرت ثلاثين عامًا عن الأغنية، لكنني اليوم أتيت لأجيب عن هذا السؤال، وكيف أن اتفاقيات التطبيع أعادت تشكيل المجتمعات العربية.


في دراسة نُشرت عام 2009 تحت عنوان “نحو قيادة بناءة اجتماعيًا”، تم الحديث عن كيفية تشكيل العقيدة العسكرية الحديثة من خلال الإجابات على أسئلة مثل: من نحن؟ ما هي غايتنا؟ كيف السبيل إلى هذه الغاية؟ وكيف وصلنا إلى هذه الغاية في الماضي؟. ورغم أن هذه المعايير تُستخدم عادة لتقييم عقيدة الجيوش، إلا أنني أعتقد أنها تحمل أيضًا وجهًا يمكننا إسقاطه على المجتمعات المدنية. إذ إن الإجابات على هذه الأسئلة تُعتبر بمثابة ما أطلق عليه علماء الاجتماع “العقد الاجتماعي”. ومن أجل فهم كيفية وصول المجتمعات العربية إلى وضع العجز المميت، يجب علينا دراسة كيفية تغير هذا العقد الاجتماعي عبر العصور المختلفة.


بالحديث عن سلسلة تطور العقد الاجتماعي، يمكننا تقسيم تلك المراحل إلى ثلاثة أقسام للتسهيل. أولاً، المرحلة الإسلامية التي قامت على أساس الوحدة الدينية والسياسية، حيث كان الدين هو الرابط الرئيس بين الأفراد والمجتمعات. ثانياً، المرحلة العروبية التي تم خلالها التركيز على الهوية العربية والوحدة القومية بين البلدان العربية، وسادت فيها فكرة القومية العربية والتكامل بين الشعوب العربية. وأخيراً، المرحلة القطرية الانعزالية التي شهدت تصاعداً في النزعات القومية الضيقة، حيث أصبح كل بلد يركز على مصالحه الخاصة بعيداً عن التعاون الإقليمي.


ظهرت المرحلة الأولى من تعريف المجتمعات العربية بكونها مجتمعات إسلامية على يد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، حيث كان العقد الذي صاغه في المدينة المنورة نواة أو نموذجًا لعقد اجتماعي قائم على أساس الدين. هذا العقد الاجتماعي لم يكن مقيدًا بحدود معينة، إذ لم تكن فكرة الحدود قائمة في تلك الأيام، بل كان يشمل كل شخص شهد أن لا إله إلا الله محمد رسول الله. ومن هنا، يمكننا فهم شمولية هذا العقد الاجتماعي وكيف ساهم في انتشاره من الأندلس حتى الصين.


عند دراسة هذه الحالة، نعود للأسئلة التي طرحناها سابقًا: من نحن؟ الإجابة هي: نحن مسلمون، نعرف أنفسنا بالشهادتين والعمل بهما. ما هي غايتنا؟ الإجابة: نشر الإسلام. كيف السبيل إلى هذه الغاية؟ الإجابة: بالثبات على الدعوة والاستمرار في تبنيها. كيف وصلنا إلى هذه الغاية في الماضي؟ الإجابة: عن طريق وجهين، الأول هو الحضارة الإسلامية التي انتشرت من خلال القوة الناعمة عبر التجار المسلمين الذين أسهموا في إسلام العديد من الشعوب في جنوب شرق آسيا، والثاني هو الوجه الخشن المتمثل في الفتوحات العسكرية.


من هنا يمكننا رسم العقد الاجتماعي الذي بنيت عليه الإمبراطوريات الإسلامية على اختلافها، من بداية خلافة الراشدين حتى أواخر عهد الإمبراطورية العثمانية. هذا هو العقد الاجتماعي الذي كان الناس يعرفون أنفسهم من خلاله.


في أواخر عهد الدولة العثمانية، ومع توالي هزائمها وحالة الضعف التي لحقت بها، حيث كانت تسمى “رجل أوروبا المريض”، بدأ ذلك العقد الاجتماعي الذي بنيت عليه أسس المجتمع الإسلامي يتفكك. لم يكن هذا التفكك بسبب عدم صلاح العقد ذاته، بل لأن الجهة التي تبنت هذا الشكل من العقد الاجتماعي أخلت به، وأصبحت الإجابات التي قدمها العقد السابق غير موجودة. وبالتالي، لم يعد بإمكان أحد أن يعرف نفسه من خلاله.


كانت النتيجة الحتمية لهذه الحالة من العجز، وظهور القوميات الأوروبية الحديثة بعد الثورة الفرنسية، هي الحاجة إلى عقد اجتماعي جديد يمكن من خلاله تعريف الذات. ومن هنا ظهرت المرحلة الثانية، وهي المرحلة العروبية.


إن انهيار الدولة العثمانية، وانحسارها في نهاية الأمر إلى حكم المناطق العربية في الشام والعراق والجزيرة العربية، أدى إلى ظهور شكل جديد من العقد الاجتماعي الذي تم فيه إعادة تعريف الهوية العربية. كانت الحاجة ملحة لتحديد الذات من خلال تعريف جديد يميز العرب، فظهرت فكرة أن “نحن عرب”. هذا التعريف الهوياتي لاقى استحسانًا واسعًا، حيث بعد قرون من سيطرة الخلافة التركية على المنطقة، عاد العرب لتعريف أنفسهم كعرب، وليس فقط كمسلمين.


ومن هنا، نشأ الفكر القومي العربي الحديث الذي بني على هذا الإطار. كان السؤال: “من نحن؟”، والإجابة هي أننا أمة عربية. وكان الوصف “عربي” يشمل كل من يتكلم اللغة العربية، وبالتالي يمكن لأي شخص من مختلف الأصول أن يكون عربيًا إذا أتقن اللغة وتبنى الثقافة العربية. أما غايتنا، فكانت إعادة أمجاد أسلافنا والعمل على تأسيس دولة عربية موحدة تضم جميع الناطقين بالعربية من المحيط إلى الخليج.


أما السبيل إلى هذه الغاية، فكان من خلال التخلص من الاستعمار بكل أشكاله، المباشر وغير المباشر، الذي كان يسيطر على العقول والموارد، والعمل على بناء قوة اقتصادية مستقلة. وكيف وصلنا إلى هذه الغاية في الماضي؟ بالقوة، والهيمنة العلمية، والثقافية، والاقتصادية.


ظلت الأفكار القومية العربية حبيسة عقول وقلوب الجماهير العربية لوقت طويل، ولم تكن لها تطبيقات فعلية على أرض الواقع حتى جاء الثالث والعشرون من يوليو عام 1952، حيث قام الضباط الأحرار في مصر بالانقلاب على حكم الأسرة العلوية وتأسيس جمهورية مصرية تنبض بالفكر القومي العربي. وبين صراع القوى في مجلس الثورة، انتهت الكفة إلى رجل كان يعكس كل ملامح العروبة في شخصه. كان شابًا طويلًا، أسمر، لغته العربية فصيحة، وكان يظهر عليه خلفيته الكادحة وانتماؤه إلى عوام الناس من الكادحين.


هذه الشعبية التي حظي بها جمال عبد الناصر، وما زال يحظى بها حتى اليوم، هي ليست فقط بسبب الإعلام، بل لأنه كان حلمًا للجماهير العربية من الرباط حتى بغداد، ومن دمشق حتى صنعاء. كان الناس يشعرون أنه قائد منهم، وليس مجرد بيروقراطي عادي. لذلك، كان جمال عبد الناصر هو الوحيد الذي تطابق عليه وصف “حبيب الملايين” كما قال عبد الحليم حافظ.


سرعان ما بدأ الحلم العربي في الانحدار بسبب العسكرة، إذ كان الفكر القومي العربي في بداياته ينبع من نخبة مدنية تتمتع بالكفاءات اللازمة لإدارة شؤون الدولة وتنظيم الحياة العامة بين الناس. لكن المشروع القومي لم يجد الفرصة لتطبيقه إلا عبر الوسيلة العسكرية التي حملت العديد من السلبيات. فاستبداد النخبة العسكرية بالمنطلقات الفكرية القومية كان له أثر سلبي كبير، ويمكننا رؤية نتائج ذلك في هزيمة عام 1967 أو في كارثة صعود العسكريين من حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة، حيث تركوا خلفهم دولاً منهارة على مختلف الأصعدة.


ومن هنا برزت الحاجة إلى عقد اجتماعي جديد، أو على الأقل عقد اجتماعي قائم على المبادئ العروبية لكنه يأخذ في اعتباره مركزية الإنسان بدلاً من مركزية المشروع. لكن هذا الفراغ لم يستمر طويلاً، إذ جاء محمد أنور السادات ليطرح عقدًا اجتماعيًا جديدًا ليس في مصر فقط، بل في كافة الأقطار العربية، ليكون مقدمة للحالة التي نعيشها اليوم.


تعد كامب ديفيد نكبة حقيقية على المنطقة العربية، إذ أدت إلى تغييرات جذرية في العقد الاجتماعي العربي. فقد أصبح من خلال هذه الاتفاقية، أجوبة الأسئلة التي كانت تمثل هوية المجتمعات العربية، أجوبة غير أصيلة بل مفروضة من الخارج. فبعد خضوع أكبر دولة عربية وأهمها لتلك الحتمية، أصبح العقد الاجتماعي الذي كان في الماضي يعكس الهوية القومية العربية، يعاد صياغته وفقًا لرؤية الاستعمار.


عند السؤال عن “من نحن؟”، يجيب مواطن أمريكي بأن هويتنا هي هوية قطرية تقتصر على الحدود المعترف بها دوليًا في الأمم المتحدة. وعند السؤال عن “ما هي غايتنا؟”، يشرح لك مواطن فرنسي أن الهدف هو التقدم والازدهار والسلام، وهي في الواقع لا تعدو كونها حصان طروادة للهيمنة والاستسلام. أما عند السؤال عن “كيف السبيل إلى هذه الغاية؟”، يأتي الجواب من مواطن ألماني يوضح ضرورة الخضوع والاستسلام كطريق لتحقيق هذه الغاية. وعندما تسأل عن كيفية الوصول إلى ذلك في الماضي، يظهر لك إسرائيلي ليقول لك إنك إنسان مستحدث بلا ماضٍ، بينما هو وحده من يملك الأحقية في الوجود العريق في المنطقة.


اليوم، أصبح الإنسان العربي مجرد ناطق باللغة العربية، بينما فقد الأسس الفكرية التي كان يجب أن يبني عليها وعيه المجتمعي. فبينما تنشغل المجتمعات العربية بين الليبرالية الغربية، التي تركز على قضايا ثانوية مثل الفرق بين البيكيني والبوركيني، وتروج لفكرة أن تحرر المرأة من ملابسها هو الطريق إلى التحضر، وبين الإسلاموية الهجينة، التي تركز على قضايا هامشية مثل تناول الطعام باليد اليمنى أو الذهاب إلى المدرسة باعتباره اختلاطاً، تنشأ معارك وهمية تشتت التفكير بدلاً من معالجة القضايا الأساسية. وتُطرح أحيانًا فكرة أن إصلاح حالنا هو مهمة الله، كما لو أن الله هو المسؤول عن تحقيق دورنا في إعمار الأرض بدلاً منا.


لذا، فإن الاتفاقيات مثل كامب ديفيد، وادي عربة، أو الاتفاقيات الإبراهيمية لا تقتصر على كونها مجرد اتفاقيات سياسية أو تجارية دبلوماسية، بل هي في الواقع أقرب إلى إعادة هندسة للعقد الاجتماعي العربي. تم تحقيق ذلك على عدة أصعدة: سياسيًا من خلال دعم الأنظمة الاستبدادية، واقتصاديًا عبر إخضاع الأسواق العربية للهيمنة الغربية وتحويلها إلى مجرد أسواق للعلامات التجارية الغربية مثل ماكدونالدز ودجاج كنتاكي، وعسكريًا من خلال البرامج التي يشرف عليها الغرب لتدريب الجيوش العربية، وكذلك ثقافيًا عبر المؤسسات غير الحكومية (NGOs) والإعلام الممول الذي يعزز الخلافات الطائفية والصراعات السطحية، ويشجع على الشوفينية وعبادة الحكم، مما يؤدي إلى تعزيز الهيمنة الغربية.


قد يبدو لك أن هذه هي نهاية الأمر، لكن يؤسفني أن أخبرك أن إعادة هندسة العقد الاجتماعي العربي تتواصل بشكل أكثر خضوعًا وانبطاحًا من ذي قبل، وذلك من خلال مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي تحدث عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. في هذا المشروع، تم إعادة صياغة العقود الاجتماعية العربية لتصبح كأن الإنسان العربي مجرد خادم للمشروع الصهيوني، يشبه في ذلك أقل جندي في جيش الاحتلال. ولكن، وعلى الرغم من ذلك، لن تتمتع بنفس الامتيازات التي يتمتع بها هذا الجندي، بل على العكس، سيكون هذا المشروع وقوده هو موتك وموت كل الروابط التي ارتبطت بها في حياتك، حتى تصبح في النهاية مجرد أداة وظيفية تؤدي دورك في حصاد الطماطم صباحًا وتوصيلها إلى أسواق تل أبيب مساءً.


لذا، اليوم نحن أمام منعطف طريق خطير، إما أن نكون أو لا نكون. وكل ذلك يعتمد على قدرتنا على تقديم إجابات واضحة لهذه الأسئلة: من نحن؟ ما هي غايتنا؟ ما السبيل للوصول إلى هذه الغاية؟ وكيف سنصل إليها في المستقبل؟

Popular posts from this blog

‏ الاحتلال الحنين رزق : شهادة عن الحرب النفسية الإسرائيلية ضد سكان قطاع غزة

كيف تسهم الاشتراكية في تعزيز استقلالية المرأة ؟

فروقات التنمية الاقتصادية بين ألمانيا الشرقية والغربية : تحليل تاريخي واقتصادي