أوكرانيا : بين مطرقة الناتو و سندان أطماعه

 أوكرانيا : بين مطرقة الناتو و سندان أطماعه


ربما لو سألت أحدهم عن أكثر شيء لطيف يحبه، قد تكون الإجابة “قطة”؛ كائن تنازل عن عرشه كنمرٍ أو أسد، وقبل أن يُسمّى “فوفو” و”مومو”، تُلاعبه، وتشتري له طعامًا، وتُلبسه ملابس جميلة. سيبقى معك تمامًا… لكن جرّب أن تخيفه، أو تضعه في زاوية، وتهدده بموقف “إما أنا أو أنت”، هذا الكائن اللطيف سيتذكر أصله كالنمر أو الأسد، وسيمزقك بأظافره حتى يسيل منك الدم.


أعتقد أن هذه المعضلة البسيطة، لو فهمناها، قد تساعدنا على فهم الوضع السياسي الأوكراني الحالي، وكيف ساهم الناتو في تدهور البلد إلى الحالة التي وصلت إليها اليوم.


لفهم الأزمة التي تمر بها أوكرانيا اليوم، يجب أن ندرك أن عالمنا أحادي القطب هو ظاهرة حديثة نسبيًا بدأت مع انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991. قبل ذلك، كان العالم ثنائي أو متعدد الأقطاب، مقسومًا بين أمريكا والمعسكر الغربي من جهة، والاتحاد السوفييتي والمعسكر الشرقي من جهة أخرى. السياسيون الذين نشأوا في تلك الحقبة تبنّوا منهجية عمل أقرب إلى الواقعية، ما جعل مواقفهم السياسية أكثر براغماتية وأشبه بلعبة الشطرنج.


لكن مع انهيار جدار برلين وسقوط الاتحاد السوفييتي، وصعود الولايات المتحدة كقطب أوحد للعالم، ظهر جيل جديد من السياسيين تربّى على فكر سياسي يمزج بين المثالية الأفلاطونية والليبرالية الأمريكية، حيث يُنظر إلى العالم من زاوية الانصياع المطلق للنموذج الأمريكي باعتباره النموذج الأسمى. هذا الفكر، الذي يتجاهل اختلاف الظروف والمعطيات، يدفع قادة مثل الرئيس فولوديمير زيلينسكي ودولهم نحو الهاوية لتحقيق رؤية مثالية، بغض النظر عن التكاليف.


بعد الحرب العالمية الثانية، انتهى التحالف الطارئ بين المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي، الذي كان هدفه المشترك القضاء على النازية، لأنه لم يكن قائمًا على أسس فكرية أو اقتصادية. ومع انتهاء الحرب، بدأ العالم يتخذ شكلًا ثنائي الأقطاب: الاتحاد السوفييتي الاشتراكي، الذي بسط نفوذه على الشرق، والمعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، التي فرضت هيمنتها على أوروبا الغربية عبر إعادة تشكيل أنظمتها السياسية والاقتصادية من خلال “خطة مارشال”.


خطة مارشال، التي غالبًا ما تُصوَّر كمنحة أمريكية بدافع الطيبة، كانت في الواقع استثمارًا مدروسًا عاد بأرباح كبيرة على الولايات المتحدة. النخب الحاكمة الأمريكية رأت في الاتحاد السوفييتي تهديدًا لمشروعها الاستعماري، ما دفعها إلى إنشاء تحالف عسكري يعمل كحاجز ضد نفوذ السوفييت، وهكذا تأسس حلف شمال الأطلسي (الناتو).


الناتو لم يكن مجرد تحالف دفاعي؛ بل كان، في جوهره، مؤسسة عدائية تجاه الاتحاد السوفييتي. ومن اللافت للنظر، وربما لم تسمع به من قبل، أن الاتحاد السوفييتي قدم عروضًا للغرب بالانسحاب من الدول التي يهيمن عليها وإقامة حكم ديمقراطي فيها مقابل إعلان حيادها، كما حدث مع النمسا. لكن هذه العروض قوبلت بالرفض المطلق من الناتو لأنها تعارضت مع مصالح النخب الأمريكية، التي كانت ترى في الناتو أداة لتحقيق هيمنتها العالمية.


مع نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، ومع تدهور الأوضاع داخل الاتحاد السوفييتي لأسباب عديدة، بدأ الاتحاد في الانهيار البطيء. كان السوفييت يقودهم ميخائيل غورباتشوف، زعيم طموح وحالم، ولكنه في الوقت نفسه كان ساذجًا في رؤيته. كان يعتقد أنه يستطيع دمج الاتحاد السوفييتي في “الأسرة الأوروبية الأمريكية”، لكن بسبب قصوره في فهم طبيعة تلك “الأسرة”، فشل في تحقيق ذلك.


أولى بوادر فشل غورباتشوف ظهرت في قضية انهيار جدار برلين وما تبعها من مفاوضات لإعادة توحيد ألمانيا. وافق غورباتشوف على التوحيد بشرط أن يحصل على وعد بعدم توسع الناتو شرقًا. لكنه، مثل شخص يصدق وعدًا من صديق دون أن يطلب أي ضمانات مكتوبة أو اتفاق رسمي، صدق الغرب على حسن نية. وفي النهاية، كما كان متوقعًا، لم يلتزم الغرب بكلمته، وبدأ الناتو في التوسع نحو الشرق كما وعد.


بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وصعود بوريس يلتسين إلى السلطة في روسيا، شهدت البلاد تغييرات جذرية أدت إلى كارثية عقد التسعينات. فقد تم، بالتعاون مع يلتسين، تفكيك البنية الاشتراكية للاقتصاد الروسي، وتحويل ملكية ثروات وشركات التصنيع من ملكية الدولة والشعب إلى ملكية رجال الأعمال الأمريكيين والأوروبيين والمؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي. وبدأ الاقتصاد الروسي يأخذ طابع النيوليبرالية، الذي كان له آثار مدمرة على الشعب؛ فمعدلات الفقر والبطالة ارتفعت بشكل غير مسبوق، وانخفض مستوى التعليم والرعاية الصحية بشكل حاد.


على الصعيد الاجتماعي، تفكك المجتمع بشكل كارثي، وازدهرت الدعارة، بما في ذلك استغلال القاصرات اللواتي قد لا يتجاوزن الـ13 عامًا. ومع الهزائم العسكرية في الحرب مع الشيشان، أصبح الروس في حالة من الانكسار النفسي، يبحثون عن شخصية قادرة على إيقاف هذا الانهيار وإعادة شيء من احترامهم لذاتهم. وفي هذه اللحظة، ظهر فلاديمير بوتين، النجم الصاعد، ليأخذ دوره على مسرح التاريخ ويقود البلاد نحو محاولة للخروج من هذه الفوضى.


فلاديمير بوتين، الرجل الذي وُلد في عائلة تعيش في ضواحي لينينغراد (سانت بطرسبرغ)، المدينة التي عانت من أبشع حصار في تاريخ البشرية خلال الحرب العالمية الثانية نتيجة التحالف بين الألمان النازيين وفنلندا، كان لهذا الحصار تأثير عميق في تشكيل شخصيته. فقد فقد العديد من أفراد عائلة بوتين في هذا الحصار، مما مزج في شخصيته مشاعر الرغبة في الانتقام والفخر بالنصر. ومن هنا، قرر بوتين تعلم اللغة الألمانية، حيث كان يرى نفسه مهيأ للانتقام من أعداء روسيا النازيين، واعتبر تعلم لغتهم وسيلة لفهم عقليتهم.


بعد ذلك، تطوع بوتين في المخابرات السوفيتية كمترجم في ألمانيا الشرقية، حيث كان يرى في نفسه شخصًا مؤهلًا لتنفيذ مهام تتعلق برد الاعتبار لروسيا. هذه التجارب والمعاناة في مرحلة مبكرة من حياته ساعدت في توضيح سلوكه السياسي في وقت لاحق.


هذا المزيج من العوامل التاريخية والشخصية يفسر كيف أن بوتين يراهن على إعادة بناء روسيا واعتبارها قوة عالمية مرة أخرى. فبعد الانهيار المدمر في التسعينات، وجد بوتين نفسه أمام مهمة استعادة روسيا من “وحل” تلك الحقبة، وبدأها بحملة عسكرية ضخمة في الشيشان بعد سلسلة من التفجيرات التي تبناها جهاديون شيشانيون في موسكو. هذه الحملة العسكرية ساهمت في بناء صورة نصر احتاجها بوتين لافتتاح عهده وتقديم نفسه كزعيم قادر على استعادة هيبة روسيا واستعادة مكانتها العالمية.


في بداية حكمه، كان بوتين يحاول الحد من توسع الناتو شرقًا، الذي كان قد بدأ فعليًا في التسعينيات بعد المصالحة مع الغرب. كان بوتين يسعى لأن تكون روسيا جزءًا من “الأسرة الأوروبية الأمريكية” من خلال الانضمام إلى الناتو والاتحاد الأوروبي، لكنه كان يعتقد أنه يمكن الحفاظ على شخصية روسيا الفريدة دون تغييرها. ومع ذلك، كما كان متوقعًا، رفض الغرب هذا العرض، حيث لم يكن في مصلحته أن يرى روسيا مندمجة في هذه الكيانات الغربية. لم تدم فترة المصالحة طويلاً، وعقب غزو العراق عام 2003، اقتنع بوتين بأن الغرب لن يتغير وأنه سيستمر في توسيع الناتو لتحقيق هدفه النهائي: القضاء على روسيا.


مع مرور الوقت، بدأ بوتين يتبنى سلسلة من المواقف التي تقربه من قناعة مفادها أن هدف روسيا يجب أن يكون قيادة حراك عالمي يمكنها من مواجهة الأحادية القطبية الأمريكية وتحقيق عالم متعدد الأقطاب. ويمكنك التأكد من هذا التوجه من خلال كلمات بوتين في مؤتمر ميونيخ للأمن عام 2007، حيث أشار إلى رفضه للهيمنة الأمريكية. وفي عام 2008، حاول الغرب استمالة جورجيا للانضمام إلى الناتو، مما أدى إلى حرب قصيرة استطاعت روسيا خلالها فرض الأمر الواقع على جورجيا ومنع انضمامها للناتو.


من هذه الحرب، أصبح من الواضح لبوتين ولروسيا أن تمدد الناتو يشكل تهديدًا وجوديًا لروسيا. وأدرك أن الروس لن يتسامحوا مع هذا التوسع، حتى لو كان ذلك يعني الوصول إلى حرب عالمية.


بالعودة إلى المدرستين السياسيتين، كانت الواقعية تفرض على الغرب عدم دفع دول شرق أوروبا نحو الانضمام إلى الناتو، مشددة على أن مصلحة هذه الدول تكمن في الابتعاد عن هذا التحالف. ومع ذلك، بما أن معظم قادة هذه الدول نشأوا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي واعتنقوا الأفكار الليبرالية المثالية، فإنهم لم ينظروا إلى الوضع من هذا المنظور. بل رأوا أن الانضمام إلى الناتو هو التزام أخلاقي تجاه النموذج الأمريكي، حتى وإن كان هذا الالتزام قد يضعهم في مواجهة مع جيرانهم الروس.


من هنا، يمكننا فهم الأزمة الأوكرانية التي بدأت في 2014. عندما كان الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش، المقرب من الروس، في مفاوضات مع الغرب من أجل انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي والناتو، إلا أن الضغط الروسي دفعه للتراجع. هذا التراجع أطلق حشودًا شعبية تطالب بالانضمام إلى الغرب، مما أدى إلى ثورة ملونة سميت “ثورة يوروميدان”، والتي أسفرت عن الإطاحة بيانوكوفيتش وتولي طبقة حاكمة موالية للغرب.


مع سقوط يانوكوفيتش، دخل الروس شبه جزيرة القرم، وهو الأمر الذي أشعل حالة من الهستيريا في أوساط الطبقة الحاكمة الأوكرانية الجديدة. فقد بدأت الحكومة الجديدة بحظر اللغة الروسية واتباع ممارسات عنيفة ضد المواطنين الأوكرانيين من أصول روسية، الذين يعيش أغلبهم في الشرق الأوكراني. هذا الأمر أدى إلى اندلاع حرب عصابات في الشرق الأوكراني، حيث تشكلت جماعات مسلحة مدعومة من روسيا، بينما استمر التوتر بين الحكومة الأوكرانية والجماعات الموالية للروس. ومع تصاعد الأحداث، واصرار الطبقة الحاكمة الأوكرانية الجديدة على الانضمام إلى الناتو، أدرك الروس أن ذلك يشكل تهديدًا وجوديًا لهم، ما دفعهم إلى بدء العملية العسكرية التي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، دون أي أفق سياسي واضح لنهايتها.


اليوم، تجد أوكرانيا نفسها ضحية لأطماع الناتو في التوسع. فهي ما زالت تحت سيطرة طبقة حاكمة مهووسة بالانضمام إلى الناتو والاتحاد الأوروبي، بشكل يجعل أوكرانيا تهديدًا وجوديًا لروسيا. ما بين حرب أدت إلى خسارة مناطق واسعة من سيطرتها، تواجه أوكرانيا خيارين صعبين: الأول هو الاستمرار في الحرب، مما يعني استمرار النزيف وانهار الجيش الأوكراني، بالإضافة إلى الاعتماد على الجماعات النازية المسلحة ودعم لا محدود لتحقيق انتصار يبدو مستحيلاً. أما الخيار الثاني فهو اللجوء إلى العقل ووقف الحرب، مما يستدعي تحمل خسائر في الأراضي والجنود، لكنه يواجه مشكلة أكبر؛ إذ أن تلك الحرب كانت مكلفة اقتصاديًا، مما دفع أوكرانيا إلى أزمة اقتصادية خانقة، مع التزامات ضخمة تجاه الغرب لدفع المليارات التي تم تقديمها لها. وبالتالي، يبدو الأفق السياسي لأوكرانيا ضيقًا في المستقبل، من دون حل واضح أو طريق للخروج من هذه الأزمة.


اليوم، وبسبب الصراع الروسي - الأوكراني الغربي، يجد العالم نفسه في أزمة يصعب حلها. والمُؤسف أن هذه الأزمة لم تكن حتمية، بل كانت مفتعلة بفعل الناتو، الذي يعد الذراع العسكري للإمبراطورية الأمريكية، والتي ترى تدمير روسيا هدفًا استراتيجيًا لها. وهكذا، فإن أوكرانيا والعالم كله أصبحوا في أزمة جديدة بسبب تلك الطموحات التوسعية التي تعتبر الحروب وعدم الاستقرار فرصًا للربح والازدهار، وتستمر المنظومة في توليد الأرباح حتى لو كان ذلك على حساب المزيد من الدماء.


من هنا، فإن من الضروري التعلم من هذه التجربة والاستعداد لإغلاق الطريق أمام تلك المنظومة التي قد تُحدث “أوكرانيا جديدة” في أماكن أخرى، سواء في أوروبا الشرقية أو في آسيا أو غيرها. يجب أن يكون هذا التزامنا الأخلاقي تجاه الأجيال القادمة التي تستحق العيش في عالم مسالم، بعيدًا عن أن تُصبح وقودًا في حروب تحقق مصالح طبقات حاكمة أخرى.

Popular posts from this blog

‏ الاحتلال الحنين رزق : شهادة عن الحرب النفسية الإسرائيلية ضد سكان قطاع غزة

كيف تسهم الاشتراكية في تعزيز استقلالية المرأة ؟

فروقات التنمية الاقتصادية بين ألمانيا الشرقية والغربية : تحليل تاريخي واقتصادي