كيف تساهم المساعدات الإقتصادية في معاناة الشعوب ؟

 كيف تساهم المساعدات الإقتصادية في معاناة الشعوب ؟

اليوم الخميس، وأنت عائد من عملك بعد يومٍ طويلٍ وشاق، يكاد رأسك ينفجر من كثرة صراخ المدير على أحمد، الذي كان يقضي إجازته الصيفية في لبنان ونسي تمامًا تسليم عمله قبل الموعد النهائي، ومنيرة التي أقسمت مرارًا وتكرارًا أنها لم تتجاوز عدد الإجازات المسموح بها عندما قدّمت طلبًا لحضور خطوبة ابنة خالتها.


وبينما تسير، تقع عيناك على لوحة إعلانية للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، تحمل صورة طفل يبتسم بإشراق، يبدو سعيدًا ومتفائلًا بالمستقبل. عندها، يراودك تساؤل: كيف، ولماذا، رغم أن بلادك تتلقى ملايين الدولارات من هذه الوكالة لدعم البنية التحتية، والتعليم، والصحة، لا يزال الوضع على حاله، إن لم يكن أسوأ؟


في هذه المقالة، سأحاول الإجابة عن هذا السؤال، وشرح كيف أن المساعدات الاقتصادية، بدلاً من تحسين حياة الشعوب، قد تجعلها أكثر بؤسًا وتعاسة، على عكس أهدافها المعلنة.


لكي نفهم سبب هذه النتيجة، لا بدّ أولًا من التمييز بين الأنظمة السياسية الديمقراطية والديكتاتورية، وفهم سبب توجّه المساعدات بشكل أساسي إلى الدول ذات الأنظمة الديكتاتورية بدلًا من الديمقراطية.


عند الحديث عن النظام السياسي، سواء كان ديمقراطيًا أو ديكتاتوريًا، هناك معيار أساسي يجب الرجوع إليه، وهو: عدد الأشخاص الذين يمتلكون السلطة الفعلية في الدولة.


في الأنظمة الديمقراطية، تكون السلطة موزعة بين عدد كبير جدًا من الأفراد، بحيث يكون اتخاذ القرار بيد شريحة واسعة من الناس، سواء بشكل مباشر أو عبر ممثلين منتخبين. أما في الأنظمة الديكتاتورية، فتتركز السلطة في أيدي قلة قليلة، غالبًا ما تشمل الحاكم والمقربين منه، سواء كانوا عائلة ملكية، أو جنرالات عسكريين، أو تحالفًا من رجال الأعمال (الأوليغارشية). وفي أفضل الأحوال، قد لا يتجاوز عدد هؤلاء بضعة آلاف.


عند دراسة الفرق بين الأنظمة الديمقراطية والديكتاتورية، نجد أن اختلاف أساليب القادة في الحكم لا يعود إلى كون القادة الديمقراطيين أكثر طيبة أو عدالة، أو لأن الديكتاتوريين أشرار بطبيعتهم. المسألة أعقد من ذلك بكثير، وهي لا تعتمد على نوايا الحاكم الشخصية بقدر ما تعتمد على طبيعة المنظومة التي يعمل ضمنها.


في الأنظمة الديمقراطية، يكون المصدر الرئيسي لدخل الدولة هو الضرائب، كما هو الحال في دول الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، وكندا. وهذا يخلق حافزًا لدى القادة المنتخبين لتعزيز النمو الاقتصادي، لأن زيادة دخل المواطنين تعني زيادة الإيرادات الضريبية، مما يؤدي إلى زيادة دخل الدولة.


بالتالي، فإن الحاكم الديمقراطي، تمامًا مثل أي موظف يسعى إلى تحسين دخله، يدرك أن تحسين مستوى معيشة الناس سيعود عليه بالفائدة. ولهذا السبب، تستثمر الحكومات الديمقراطية بكثافة في الصحة، والتعليم، والبنية التحتية—ليس بدافع الإنسانية أو الرحمة، وليس لأن القادة الديمقراطيين لطفاء ويحبون الجميع مثل هيفاء وهبي، ولكن لأن ذلك يصب في مصلحتهم الاقتصادية المباشرة، ويعزز استقرار الدولة وإيراداتها المالية.


أما في الأنظمة الديكتاتورية، فالوضع مختلف تمامًا. فالدول المحكومة بأنظمة استبدادية غالبًا ما يكون مصدر دخلها الرئيسي لا يعتمد على الضرائب، بل يأتي من مصادر مستقلة مثل عائدات النفط، الثروات المعدنية، القروض الميسرة، أو المساعدات الخارجية. وهذا يخلق ديناميكية مختلفة تمامًا في العلاقة بين الحاكم والشعب.


بما أن القادة الديكتاتوريين لا يعتمدون على الضرائب كمصدر أساسي للدخل، فإنهم لا يجدون أي مصلحة في تحسين معيشة المواطنين، بل على العكس، قد يكون الاستثمار في الصحة، التعليم، أو البنية التحتية خطرًا عليهم. والسبب في ذلك أن أي تحسن في مستوى معيشة الناس قد يؤدي إلى تقوية المجتمع، ورفع مستوى الوعي، مما يهدد قبضتهم على السلطة.


بالإضافة إلى ذلك، يعتمد الحاكم الديكتاتوري على شراء ولاء الفئة القليلة التي تتحكم بالسلطة—سواء كانوا جنرالات، عائلات ملكية، أو نخبًا اقتصادية. وإذا قرر إنفاق الأموال على تحسين حياة الشعب بدلًا من توزيعها على هذه النخبة، فإنه يعرض نفسه لخطر فقدان دعمهم، مما قد يؤدي إلى الإطاحة به واستبداله بحاكم آخر أكثر سخاءً معهم.


لهذا السبب، نجد أن الشعوب التي تعيش تحت حكم الديكتاتوريات غالبًا ما تكون من أكثر الشعوب بؤسًا وفقرًا، باستثناء حالات نادرة، حيث يمتلك بعض الحكام ثروات ضخمة تمكّنهم من تحقيق نوع من التوازن بين تحسين حياة المواطنين وضمان ولاء النخبة. لكن هذه الحالات استثنائية ونادرًا ما تدوم طويلًا، لأن أي خلل في توزيع الامتيازات قد يؤدي إلى انهيار النظام.


فهم توزيع السلطة بين عدد كبير أو قليل من الأشخاص ليس مقتصرًا على الحكام فقط، بل تدركه أيضًا الدول الغنية والإمبريالية جيدًا. ولهذا السبب، عندما تسمع رئيسًا أمريكيًا أو مسؤولًا غربيًا يتحدث عن نشر الديمقراطية في العالم الثالث، فهو قطعًا يكذب، لأن الحقيقة هي أن التعامل مع الأنظمة الديكتاتورية أسهل بكثير من التعامل مع الأنظمة الديمقراطية.


في الدول الديكتاتورية، تتركز السلطة في أيدي قلة قليلة، مما يجعل من السهل على القوى الكبرى شراء ولائهم مقابل تمرير سياسات قد تكون مدمرة لمصلحة شعوبهم. فبدلًا من محاولة إقناع أو رشوة نظام ديمقراطي حيث تُوزَّع السلطة بين عدد كبير جدًا من الأفراد (برلمانات، قضاء مستقل، إعلام حر، مجتمع مدني)، يمكن ببساطة رشوة الحاكم وحاشيته في دولة ديكتاتورية، وهو أمر أرخص وأسهل بكثير.


في الدول الديمقراطية، أي قرار كبير قد يتطلب إجماعًا واسعًا، وقد يواجه مقاومة من جهات مختلفة، مما يجعل فرض السياسات الأجنبية أصعب بكثير، وقد يستدعي حتى ثورة أو تغييرات سياسية ضخمة لتحقيق ذلك. أما في الأنظمة الديكتاتورية، فإن الاتفاق مع حفنة صغيرة من المسؤولين يكفي للتحكم في بلد بأكمله، دون الحاجة لأي تعقيدات سياسية.


لهذا السبب، نجد أن القوى الكبرى تتظاهر بدعم الديمقراطية، لكنها في الواقع تفضل بقاء الأنظمة الديكتاتورية، لأنها تمنحها سيطرة أسهل على الموارد، والقرارات السياسية، والسياسات الاقتصادية، وكل ذلك بأقل تكلفة وجهد.


لنأخذ مثالًا عمليًا لفهم هذه الفكرة بشكل أوضح:


في عام 2003، عرض الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن على تركيا مبلغ 26 مليار دولار مقابل السماح باستخدام القواعد الجوية الأمريكية في تركيا لقصف العراق. ولكن تركيا رفضت العرض، والسؤال هنا: لماذا؟


السبب بسيط، تركيا دولة ديمقراطية، ورغم عيوب نظامها، إلا أن السلطة فيها موزعة على عدد كبير جدًا من الناس. فلو افترضنا أن عدد من يمتلكون السلطة في تركيا يعادل عدد الناخبين الذين أوصلوا أردوغان إلى الحكم في الانتخابات الأخيرة، أي 19 مليون شخص، فإن تقسيم 26 مليار دولار عليهم يعني أن نصيب كل شخص سيكون حوالي 1368 دولارًا.


هذا الرقم، رغم كبره، ليس مغريًا لمواطن تركي دخله السنوي معقول، وبالتالي لم يكن هناك حافز كافٍ للموافقة على هذا العرض.


أما لو تم تقديم العرض نفسه لدولة ديكتاتورية مثل مصر، حيث تتركز السلطة في يد ألف شخص فقط، فإن تقسيم 26 مليار دولار عليهم يعني أن نصيب كل فرد سيكون 26 مليون دولار!


هذا المبلغ فلكي مقارنة بدخل المواطن المصري العادي، وهنا يصبح القرار بسيطًا جدًا: خذ الأموال، وافتح الأجواء، ودع الأمريكيين يقصفون العراق كما يشاؤون.


خذ على سبيل المثال قصة جون كيثونغو، الصحفي الكيني المعروف بمحاربة الفساد، الذي عيّنته الرئاسة الكينية للإشراف على مكافحة الفساد، لكنه اكتشف أن الحكومة الكينية تسرق المعونات بنفسها. عندما وقعت بين يديه وثائق تكشف هذا الفساد، تعاون مع السفير البريطاني، ثم هرب إلى بريطانيا وقدّم الملفات للمؤسسات المالية الدولية، متوقعًا أن تتحرك لمحاسبة الفاسدين.


لكن ماذا حدث؟ تم تجاهله تمامًا، بل إن السفير البريطاني الذي تعاون معه تم عزله من منصبه. لماذا؟


لأن البريطانيين لم يكونوا مهتمين بمحاربة الفساد أصلًا—فهم يعلمون جيدًا أن المعونات التي يقدمونها ليست سوى رشاوى لحكومات هذه الدول لضمان ولائها، وليس لدعم شعوبها. ببساطة، هذه الأموال كانت مرسلة لكي تُسرق، وليس ليتم استخدامها لتنمية حقيقية.


الأمر نفسه ينطبق على الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، التي ليست سوى واجهة ناعمة لتقديم الرشاوى للحكومات من أجل تنفيذ السياسات الأمريكية عالميًا. الهدف ليس التنمية أو تحسين معيشة الشعوب، بل شراء الطبقات الحاكمة وضمان تبعيتها المطلقة.


لذلك، فناء هذه المؤسسات ليس خسارة، بل مصلحة استراتيجية على المدى البعيد، لأنه يعني قطع أحد أهم أدوات التبعية الاقتصادية والسياسية. وبالنتيجة، فإن التخلص من هذه المنظومة لن يحرر الدول من الهيمنة الأمريكية فحسب، بل سيحرم الطبقات الحاكمة الفاسدة من الأداة التي تستخدمها لشراء الولاءات وإحكام قبضتها على الشعوب.


وهذا يوضح لماذا الدول الإمبريالية تفضّل التعامل مع الأنظمة الديكتاتورية، لأنها ببساطة تجعل شراء القرارات السياسية أمرًا رخيصًا وسهلًا، على عكس الديمقراطيات حيث تتوزع السلطة بين أعداد كبيرة، ما يجعل رشوتها أمرًا مكلفًا وغير عملي.


لهذا السبب، دعمت أمريكا الإطاحة بالتجارب الديمقراطية في مصر، والكونغو، وأمريكا اللاتينية، وآسيا، وغيرها، لأنها لم تكن ترغب في أنظمة يكون اتخاذ القرار فيها بيد شعوبها. فهيمنة أمريكا عالميًا تعتمد على أنظمة استبدادية تستطيع التحكم بها بسهولة، وليس على حكومات ديمقراطية قد تضع مصالح شعوبها أولًا.


والنتيجة؟ عذاب الشعوب ومعاناتها تحت حكم أنظمة قمعية، استبدادية، أو حتى أنظمة إبادة جماعية وفصل عنصري، هو الثمن الباهظ الذي تدفعه هذه الشعوب لضمان استمرار الهيمنة الأمريكية عالميًا.


لذلك، من الضروري جدًا عند الحديث عن التحرر من الهيمنة الأمريكية أن نفهم كيف تُفرض هذه الهيمنة في المقام الأول. لا يكفي أن نرى النتائج فقط—مثل الفقر، والتبعية الاقتصادية، والأنظمة القمعية—بل يجب أن ندرك الآليات التي تستخدمها أمريكا لإحكام قبضتها على الدول.


واحدة من أهم هذه الآليات هي المعونات الأمريكية، التي تُقدَّم لدول مثل مصر، والأردن، وغيرها تحت عناوين براقة مثل “دعم التنمية”، و”تعزيز الاستقرار”، و”نشر الديمقراطية”، لكنها في الحقيقة ليست سوى أدوات لضمان استمرار التبعية.


عند فهم هذه النقطة، يصبح من السهل تحديد ما يجب علينا فعله بعد ذلك. فالتحرر لا يبدأ بالشعارات، بل بفهم الواقع كما هو: كيف يتم التحكم بنا؟ ومن أين تأتي السيطرة؟ وما هي الأدوات التي تُمكّن القوى الكبرى من إبقاء الشعوب تحت هيمنتها؟


بمجرد أن نمتلك هذا الفهم، نستطيع الانتقال إلى الخطوة التالية: وضع استراتيجية للتحرر الحقيقي، سواء كان ذلك على المستوى السياسي، أو الاقتصادي، أو الثقافي، بحيث لا نكون مجرد متلقين للهيمنة، بل فاعلين في مواجهتها.

Popular posts from this blog

‏ الاحتلال الحنين رزق : شهادة عن الحرب النفسية الإسرائيلية ضد سكان قطاع غزة

كيف تسهم الاشتراكية في تعزيز استقلالية المرأة ؟

فروقات التنمية الاقتصادية بين ألمانيا الشرقية والغربية : تحليل تاريخي واقتصادي