لماذا تذهب الامراطوريات الى الحروب ؟

لماذا تذهب الامراطوريات الى الحروب ؟

في يومٍ من الأيام، تجلس تشاهد الأخبار، وإذا بنشرةٍ أمامك تتحدّث عن التحذير من تعاطي المخدرات، وتعرض حالاتٍ لأشخاص دمّروا حياتهم طوعًا مقابل الحصول على جرعةٍ أخرى. وتسأل نفسك: كيف وصلوا إلى هذه المرحلة؟ وكيف بلغوا حدًّا قد يودي بهم إلى الموت إذا انقطع عنهم المخدّر؟
الجواب ببساطة هو أن تعاطي المخدرات يغيّر فسيولوجية الجسم ذاته، ويجعله غير صحي، ويُعِدّ تركيبته كلها لاستقبال جرعة المخدّر، بحيث ينسى الجسد طبيعة عمله الأساسية، ويدمّر نفسه ذاتيًا من خلال رغبته بالمخدرات مرارًا وتكرارًا.

قد يبدو هذا المثال بسيطًا، عزيزي القارئ، لكنه إشارة إلى كيف أن الإمبراطوريات التي تعتاش على الحروب تشبه كثيرًا هذه الحالة؛ فممارستها المستمرة للحروب تجعلها كمتعاطي المخدرات الذي يهيّئ جسده وحياته للجرعة التالية لا للتعافي. واليوم سأحاول شرح هذه الظاهرة.

لكي نفهم هذه الظاهرة، لا بدّ أن نعود إلى أشهر مثالٍ تاريخي: ألمانيا النازية. فعادةً عندما نعود إلى سيرة ألمانيا النازية، يتمّ طرح سياساتها واحتلالها للدول من منظورٍ أيديولوجيّ بحت، دون الرجوع إلى الأسباب المادية. وهذا مفهوم إلى حدٍّ ما، لكن إذا أردنا النظر إلى تاريخ ألمانيا في سياقه التاريخي الصحيح، فعلينا تناول تصرّفاتها ودوافعها المادية، لا الأيديولوجية فقط.

وبالعودة إلى ما قبل صعود الحزب النازي، حيث كانت جمهورية فايمار قائمةً على أنقاض الإمبراطورية الألمانية المهزومة في الحرب العالمية الأولى والموقّعة على معاهدة فرساي، ظهر اقتصادٌ ألماني هشّ. وعلى الرغم من هشاشته، كان مطالبًا بدفع التعويضات للحلفاء، ومحرومًا كذلك من امتيازات منطقة الرور الصناعية التي كانت تحت سيطرة فرنسا. فكانت النتيجة انهيار الاقتصاد الألماني بالكامل عام 1923، وظهور تضخّمٍ كان بالغ السوء إلى درجة أن الموظفين كانوا يتقاضون أجورهم اليومية مرتين: مرة صباحًا ومرة مساءً، لأن بضع ساعاتٍ فقط من العمل كانت كافية كي تفقد العملة الألمانية — المارك — جزءًا كبيرًا من قيمتها، فيصبح ما قبضه العامل صباحًا بلا قيمة تقريبًا مع نهاية اليوم.

ذلك كان حال الاقتصاد الألماني، الذي بدأ يتعافى قليلًا، لكنه تعرّض لصدمةٍ اقتصادية جديدة عام 1929 مع حدوث أزمة الكساد العظيم.

أدّى ذلك إلى صعود الحزب النازي عام 1933، والذي لم يجد طريقة لتحسين الاقتصاد الألماني — الذي كان يضم ستة ملايين عاطل عن العمل، أي خُمس قوة العمل الألمانية — إلا عبر التوسع العسكري وإعادة التسلّح. لكن كيف يمكن فعل ذلك بينما الحلفاء، الذين أجبروا ألمانيا على توقيع معاهدة فرساي، يراقبون كل إنفاق حكومي؟

هنا وجد هتلر والاقتصاديون الألمان حيلة ذكية لكنها انتحارية وتنطوي على مقامرة كبيرة، وهي إنشاء شركة خاصة وهمية تُصدر ضمانات مالية تستطيع الحكومة الألمانية بواسطتها الاقتراض من البنوك الخاصة، مقابل تقديم هتلر لهذه الأوراق المالية على أنها وعود بالسداد بعد خمس سنوات. وتمكّن هتلر بهذه الحيلة من إخفاء الأموال التي صُرفت على إعادة التسلّح وبناء الجيش عن أعين الحلفاء، وفي الوقت ذاته وفّر فرص عمل واسعة للعمال الألمان، فبدأت عجلة الاقتصاد بالتحرك.

إلا أنّ هذه بنية اقتصادية غير صحية، ولذلك بدأت المشكلات بالظهور لاحقًا.

كان الاقتصاد الألماني بهذه البنية واقعًا تحت ضغطٍ هائل؛ فمن جهة، كان مطلوبًا منه استمرار دوران عجلة الاقتصاد وتوفير فرص العمل للألمان عبر التوسّع الدائم في الجيش، ومن جهة أخرى كانت ديون الحكومة الألمانية المخفية — التي بلغت نحو 12 مليار مارك — قد فاقت الديون الرسمية لألمانيا البالغة 10 مليارات مارك. كما أن الضمانات المالية التي قدّمها هتلر عام 1934 حان موعد سدادها بعد خمس سنوات، أي في عام 1939.

عندها احتاج هتلر إلى موارد جديدة يستطيع سداد ديونه من خلالها، فلجأ إلى التوسع العسكري. وكانت أولى الضحايا النمسا، حيث روّج هتلر لضمّها إلى الرايخ على أنه رغبة صادقة في “إعادة توحيد الشعوب الجرمانية”، بينما كان هدفه الحقيقي هو الاستيلاء على احتياطيات النمسا من الذهب لإدخالها في الدورة الاقتصادية الألمانية. والأمر نفسه تكرّر مع تشيكوسلوفاكيا، التي كانت تمتلك بنية صناعية ضخمة، فكان ضمّها يخدم الدوافع الاقتصادية قبل أي اعتبار آخر.

وبما أن النموذج الاقتصادي الذي بناه هتلر كان نموذجًا غير مستقر، فقد أصبح شبيهًا بمدمن المخدرات الذي يتطلّع دائمًا إلى المزيد والمزيد وإلا سينهار. ومن هنا برزت الحاجة إلى حربٍ كبرى تخوضها ألمانيا؛ حربٍ تُمكّنها من تنفيذ أجندة الحزب النازي، ليس على المستوى الفكري فقط، بل على المستوى الاقتصادي أيضًا.

ذهب هتلر إلى الحرب مع بولندا تحت راية استعادة الأراضي الألمانية التي فُقدت وأُعطيت لبولندا، لكن الحقيقة كانت رغبته في الاستيلاء على الإنتاج الصناعي والزراعي البولندي، وتسخير البولنديين — الذين كانت النازية تحتقرهم — للعمل بالسخرة لخدمة الاقتصاد الألماني الهش والمضطرب. ومن هنا يمكنك أن تفهم لماذا كانت حروب ألمانيا سريعة جدًا وتُسمّى بالحروب الخاطفة Blitzkrieg؛ إذ كان هتلر والجيش الألماني يحتاجون إلى انتهاء الحروب بسرعة للاستيلاء على الثروات بأقصر وأسهل طريقة ممكنة، لأن خوض حرب طويلة كان سيؤدي إلى استنزاف الاقتصاد الألماني، وهو أمر لم يكن الاقتصاد قادرًا على تحمّله.

لذلك رأيت الجيش الألماني يخوض مغامراته بسرعة في بولندا أو اسكندنافيا أو فرنسا… لكن عندما واجه دولًا مثل بريطانيا ثم الاتحاد السوفيتي واجه مشكلة حقيقية، لأنه لم يعد قادرًا على تطبيق تكتيك الحرب الخاطفة. وهذا، بالنسبة للألمان، شكّل تعميقًا لأزمتهم المالية، وهدّد قدرة نظامهم على البقاء واستمرار حربهم من الأساس.

كانت خطة هتلر، عملية بارباروسا — أي اجتياح الاتحاد السوفيتي باتجاه مدن لينينغراد وموسكو وكييف — أكبر تجسيد لهذه العقلية، إذ رأت القيادة النازية أن غزو الاتحاد السوفيتي سيكون خاتمة انتصارات الرايخ الألماني، وأنه سيمنح ألمانيا “مغارة علي بابا” بما تحويه من ثروات لا تُستنفد من معادن وطاقة وذهب وإنتاج زراعي، وهو ما كان سيشكّل أخيرًا رابطة الاستقرار التي تبحث عنها إمبراطورية هتلر.

إلا أن صمود السوفييت، ثم هزيمة ألمانيا في معركة ستالينغراد التي حوّلت الاجتياح الألماني من حربٍ خاطفة إلى حرب استنزاف، كانت بمثابة شهادة وفاة للرايخ الثالث. فقد أدّى ذلك إلى انهيار الاقتصاد الألماني النازي، ومن ثمّ انهيار الإمبراطورية النازية بأكملها، وصولًا إلى استسلام ألمانيا في 8 مايو 1945.

قد تبدو تلك التجربة النازية في التوسّع والتسلّح وصناعة بنيةٍ اقتصادية للدولة تجعلها هشّة ولا يمكنها الاستمرار إلا عبر الحروب حدثًا استثنائيًا في التاريخ، لكنها في الحقيقة ليست كذلك أبدًا. بل هي، برأيي، ما يمكن تسميته داء الإمبراطورية؛ ذلك الداء الذي يجعل أسباب هلاك الإمبراطورية كامنة في أسباب سطوتها وبطشها.

ومن هنا يمكن اليوم مقاربة هذا النموذج من خلال الاستدلال بالتجربة الصهيونية في المنطقة العربية، التي اقتبست كثيرًا من تلك المراحل. فاليوم ترى إسرائيل تروّج لدعاية “إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات”، وهو ما يشبه دعاية ألمانيا النازية عن رغبتها في التوسّع لخلق “مساحة للعيش” (Lebensraum) للشعوب الجرمانية، مستخدمةً الدعاية ذاتها لتحقيق تلك الغاية. غير أن الحقيقة أن دوافع كلٍّ من إسرائيل والرايخ الثالث، في جوهرها، كانت دوافع اقتصادية مُغلَّفة بالأيديولوجيا.

منذ نشأتها، روّجت إسرائيل لنفسها على أنها درّة تاج الحضارة الغربية في مواجهة “التخلّف والبربرية” العربية والإسلامية، وهو الخطاب الذي سهّل عليها، عبر عمليات التطهير العرقي للفلسطينيين بالقتل والتهجير القسري، اكتساب صفة “الدولة الخبيرة بمحاربة الإرهاب”، والدولة القادرة على نقل تجربتها الأمنية إلى دول العالم. وقد لاقى هذا الخطاب رواجًا كبيرًا، خاصة بعد تفجير البرجين في الحادي عشر من سبتمبر 2001، وصعود خطاب الإسلاموفوبيا و”الحرب على الإرهاب”.

واليوم تجد إسرائيل نفسها تُقدَّم على أنها النموذج الذي ينبغي الاقتداء به في محاربة الإرهاب. ولأجل ذلك بنت بنية اقتصادية كاملة، وبنية مجتمعية كاملة، تقومان على خدمة هيكل اقتصاد يستثمر في التكنولوجيا العسكرية والأمنية والمراقبة. وقد استطاعت إسرائيل تحقيق الأفضلية في هذه المجالات نتيجة تجربتها المباشرة بتلك التكنولوجيا على الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية وداخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.

لذلك تجد إسرائيل اليوم مضطرة لخوض إبادةٍ جماعية في فلسطين، وشنّ حروب على لبنان وسوريا والعراق واليمن وإيران، ليس لأسباب أيديولوجية أو أمنية فحسب، بل أيضًا لأسباب اقتصادية تقتضي ضمنيًا استمرار الهيكلية الاقتصادية الإسرائيلية في العمل من خلال التوسّع في تصنيع التكنولوجيا العسكرية والأمنية. فهذا التوسّع يزيد من نزعة إسرائيل إلى الهمجية، وهو بدوره يوسّع تلك الصناعات، فتتكرّر الحلقة المفرغة مرة بعد مرة، ويُعاد إنتاجها باستمرار. وفي النهاية يكون الضحايا هم الفلسطينيون والعرب الرافضون لحلقة الهيمنة تلك.

ولهذا يبدو كلام المثقفين الليبراليين العرب، وكل التابعين لفكر الهيمنة الغربي، حين يزعمون أن سبب مأساة الفلسطيني والعربي هو عدم تحالفه مع إسرائيل، وعدم انخراطه في النظام الاقتصادي الدولي، وتمسّكه بما يسمّونه “ثقافة الموت”— كلامًا سطحيًا يتجاهل الحقيقة الأساسية. فالفلسطينيون والعرب منخرطون فعلًا في المنظومة الاقتصادية الدولية، لكن ما أُسنِد إليهم داخل هذه المنظومة هو دور الضحية المسبقة؛ الضحية التي يجب أن تُقتل وتُباد كي يستمرّ توسّع الهيمنة الإسرائيلية، ومن خلفها الهيمنة الأمريكية، على المنطقة العربية.

ولا يقتصر هذا النموذج على إسرائيل أو ألمانيا النازية فحسب، بل يشمل كل الإمبراطوريات التي تنتهج النهج ذاته. فاليوم ترى الولايات المتحدة تحرّض لغزو فنزويلا بذريعة محاربة تدفّق المخدرات، وقبلها اجتاحت العراق وسوريا وليبيا وأفغانستان وغيرها من الدول، لأنها هي أيضًا صيغت وهيكِلت لتصبح إمبراطورية “الرجل مدمن المخدّرات” التي لا تستطيع البقاء دون الاستمرار في ممارسة البلطجة على العالم. وهذا المسار، في النهاية، يُفضي إلى انهيارها إذا ما واجهت جبهة مقاومة تستنزفها وتجعل من إدمانها وبالًا عليها.

Comments

Popular posts from this blog

‏ الاحتلال الحنين رزق : شهادة عن الحرب النفسية الإسرائيلية ضد سكان قطاع غزة

كيف تسهم الاشتراكية في تعزيز استقلالية المرأة ؟

الطريق الى غزة